الأحد، 14 يناير 2018

الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة عمرو العدوي أبو حبيبة





أبو حبيبة


هل يجوز الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فهذه رسالة مختصرة في حكم الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة بيَّنت فيها بإيجاز: أقوال العلماء ودليل كل فريق وذكرت القول الراجح من أَقوالهم وأخيرا من أراد التوسع في باب الاعتكاف فليرجع إلى كتابي الصيام على المذاهب الأربعة 0
أسأل الله العظيم، رب العرش العظيم، أن يجعل عملي هذا خالصا لوجهه الكريم، وأن يرحمني يوم لا ينفع مال ولا بنون، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله.
الْمَوَاضِعُ الَّتِي فِيهَا الِاعْتِكَافُ: فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيهَا على أربعة أقوال :
القول الأول : الِاعْتِكَاف يَصح فِي كل مَسْجِد ولو لم تقم فيه صلاة الجماعة وبه قال مالك والشافعي وداود انظر المجموع (6/ 483) ودليلهم : قال تعالى : : {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ} [البقرة: 187] قال البخاري في صحيحه [3/47] : بَابُ الِاعْتِكَافِ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ، وَالِاعْتِكَافِ فِي المَسَاجِدِ كُلِّهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ، تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187]
قال ابن حجر في فتح الباري [4/271] : قَوْلُهُ بَابُ الِاعْتِكَافِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ وَالِاعْتِكَافِ فِي الْمَسَاجِدِ كُلِّهَا أَيْ مَشْرُوطِيَّةُ الْمَسْجِدِ لَهُ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ بِمَسْجِدٍ دُونَ مَسْجِدٍ اهـ قال النووي في المجموع [6/483] : * وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ الْآيَةِ لِاشْتِرَاطِ الْمَسْجِدِ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ الِاعْتِكَافُ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ لَمْ يَخُصَّ تَحْرِيمَ الْمُبَاشَرَةِ بِالِاعْتِكَافِ فِي الْمَسْجِدِ لِأَنَّهَا مُنَافِيَةٌ لِلِاعْتِكَافِ فَعُلِمَ أَنَّ الْمَعْنَى بَيَانُ أَنَّ الِاعْتِكَافَ
إنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَسَاجِدِ وَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُهُ فِي الْمَسَاجِدِ صَحَّ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ وَلَا يُقْبَلُ تَخْصِيصُ مَنْ خَصَّهُ بِبَعْضِهَا إلَّا بدليل ولم يصح في التخصيص شىء صريح اهـ
قلت : هذه الآية عامة على جواز الاعتكاف في كل مسجد ويبقى العام على عمومه حتى يرد ما يخصصه وقد وقع التخصيص كما سيأتي من حديث حذيفة قال ابن حزم في المحلى (3/428) : وَالِاعْتِكَافُ جَائِزٌ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ جُمِعَتْ فِيهِ الْجُمُعَةُ أَوْ لَمْ تُجْمَعْ، سَوَاءٌ كَانَ مُسْقَفًا أَوْ مَكْشُوفًا، فَإِنْ كَانَ لَا يُصَلَّى فِيهِ جَمَاعَةً وَلَا لَهُ إمَامٌ: لَزِمَهُ فَرْضًا الْخُرُوجُ لِكُلِّ صَلَاةٍ إلَى الْمَسْجِدِ تُصَلَّى فِيهِ جَمَاعَةً إلَّا أَنْ يَبْعُدَ مِنْهُ بُعْدًا يَكُونُ عَلَيْهِ فِيهِ حَرَجٌ فَلَا يَلْزَمُهُ بُرْهَانُ ذَلِكَ -: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] فَعَمَّ اللَّهُ تَعَالَى وَلَمْ يَخُصَّ اهـ
القول الثاني : قالوا : لَا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ فِيهِ جُمُعَةٌ و لو لم تقم فيه الجماعة وهو مذهب الزُّهْرِيّ وَالْحَكَم وَحَمَّاد انظر المجموع (6/ 483) ورواية عن مالك انظر بداية المجتهد (2/77)
القول الثالث : قال أبو حنيفة وأحمد واسحاق وَأَبُو ثَوْرٍ يَصِحُّ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ يُصَلَّى فِيهِ الصَّلَوَاتُ كُلُّهَا وَتُقَامُ فِيهِ الْجَمَاعَةُ انظر المجموع (6/ 483) ورجحه ابن باز وابن عثيمين ودليلهم :
1- قال تعالى : {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ} [البقرة: 187] قالوا : الآية عامة خصت بحديث عَائِشَةَ رضي الله عنها ، أَنَّهَا قَالَتْ: " السُّنَّةُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ: أَنْ لَا يَعُودَ مَرِيضًا، وَلَا يَشْهَدَ جَنَازَةً، وَلَا يَمَسَّ امْرَأَةً، وَلَا يُبَاشِرَهَا، وَلَا يَخْرُجَ لِحَاجَةٍ، إِلَّا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَا اعْتِكَافَ إِلَّا بِصَوْمٍ، وَلَا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ جَامِعٍ رواه أبو داود [2473] وصححه الألباني  فخصصوه بأنه لا بد وأن يكون في مسجد جامع والرد على ذلك : أن عائشة نقلت ما رأت من حال النبي صلى الله عليه وسلم في اعتكافه ، حيث إن لفظ السنة لا ينصرف إلى غير النبي صلى الله عليه وسلم بغير دليل ، وحال النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يعتكف في غير مسجده وهو مسجد جامع ، مع وجود غيره من المساجد في المدينة ، لذا نقلت عائشة ما رأت ، وما رأت لا يخالف ما جاء من حديث حذيفة - كما سياتي - ، حيث إن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم من هذه المساجد المذكورة في حديث حذيفة وكما وقع التخصيص بحديث عائشة كما يقولون يقع أيضا بحديث حذيفة ، فيكون المقصود بالمساجد المساجد الثلاثة فقط 0
2- عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: «لَا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ»  رواه ابن أبي شيبة في المصنف [9670] ضعيف إذا صح فحديث حذيفة الآتي مخصصا له
3- عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ مَسْجِدٍ فِيهِ إمَامٌ وَمُؤَذِّنٌ فَالِاعْتِكَافُ فِيهِ يَصْلُحُ» رواه ابن حزم في المحلى [3/431] وضعفه جدا ابن حزم وقال الألباني في ضعيف الجامع [4250] : موضوع اهـ
4- اعْتِكَافُ الرَّجُلِ فِي مَسْجِدٍ لَا تُقَامُ فِيهِ الْجَمَاعَةُ يُفْضِي إلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا تَرْكُ الْجَمَاعَةِ الْوَاجِبَةِ، وَإِمَّا خُرُوجُهُ إلَيْهَا، فَيَتَكَرَّرُ ذَلِكَ مِنْهُ كَثِيرًا مَعَ إمْكَانِ التَّحَرُّزِ مِنْهُ، وَذَلِكَ مُنَافٍ لِلِاعْتِكَافِ، إذْ هُوَ لُزُومُ الْمُعْتَكَفِ وَالْإِقَامَةُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ فِيهِ. وَلَا يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ إذَا كَانَ الْمُعْتَكِفُ رَجُلًا انظر المغني [3/189] قال ابن باز رحمه الله : يصح الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة إلا أنه يشترط في المسجد الذي يعتكف فيه إقامة صلاة الجماعة فيه فإن كانت لا تقام فيه صلاة الجماعة لم يصح الاعتكاف فيه، إلا إذا نذر الاعتكاف في المساجد الثلاثة فإنه يلزمه الاعتكاف بها وفاء لنذره أما الحديث الذي ذكرت فهو ضعيف انظر مجموع فتاوى (25/ 218)
القول الرابع : لَا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ: بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَمَسْجِدِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَبِهِ قَالَ حُذَيْفَةُ ورجحه الألباني وهو الراجح والدليل : عَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: قَالَ حُذَيْفَةُ  لِعَبْدِ اللَّهِ: عُكُوفٌ بَيْنَ دَارِكَ وَدَارِ أَبِي مُوسَى لَا يَضُرُّ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ» فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَعَلَّكَ نَسِيتَ وَحَفِظُوا أَوْ أَخْطَأْتَ وَأَصَابُوا رواه الأسماعيلي في معجمه [3/720] حديث صحيح وصححه الذهبي والسفاريني وقال الألباني رحمه الله في الصحيحة [6/667] : وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين اهـ
قال الألباني رحمه الله في قيام الليل ص (36) : ثم وقفت على حديث صحيح صريح يُخصص "المساجد" المذكورة في الآية بالمساجد الثلاثة: المسجد الحرام, والمسجد النبوي, والمسجد الأقصى, وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة" وقد قال به من السلف فيما اطلعت حذيفة بن اليمان, وسعيد بن المسيب, وعطاء, إلا أنه لم يذكر المسجد الأقصى, وقال غيرهم بالمسجد الجامع مطلقاً, وخالف آخرون فقالوا: ولو في مسجد بيته. ولا يخفى أن الأخذ بما وافق الحديث منها هو الذي ينبغي المصير إليه, والله سبحانه وتعالى أعلم اهـ وقال في الصحيحة [6/670] : واعلم أن العلماء اختلفوا في شرطية المسجد للاعتكاف وصفته كما تراه مبسوطا في " المصنفين " المذكورين و " المحلى " وغيرهما، وليس في ذلك ما يصح الاحتجاج به سوى قوله تعالى: * (وأنتم عاكفون في المساجد) *، وهذا الحديث
الصحيح، والآية عامة، والحديث خاص، ومقتضى الأصول أن يحمل العام على الخاص، وعليه فالحديث مخصص للآية ومبين لها، وعليه يدل كلام حذيفة وحديثه ، والآثار في ذلك مختلفة أيضا، فالأولى الأخذ بما وافق الحديث منها كقول سعيد بن المسيب: لا اعتكاف إلا في مسجد نبي. أخرجه ابن أبي شيبة وابن حزم بسند صحيح عنه. ثم رأيت الذهبي قد روى الحديث في " سير أعلام النبلاء " (15 / 80) من طريق محمود بن آدم المروزي: حدثنا سفيان به مرفوعا، وقال: " صحيح غريب عال ". وعلق عليه الشيخ شعيب بعد ما عزاه للبيهقي وسعيد بن منصور بقوله: "وقد انفرد حذيفة بتخصيص الاعتكاف في المساجد الثلاثة "! وهذا يبطله قول ابن المسيب المذكور، فتنبه. على أن قوله هذا يوهم أن الحديث موقوف على حذيفة،وليس كذلك كما سبق تحقيقه، فلا تغتر بمن لا غيرة له على حديث رسول الله صلى
الله عليه وسلم أن يخالف، والله عز وجل يقول: * (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) اهـ
شبهات والرد عليها :
1- قول ابن مسعود لحذيفة : لَعَلَّكَ نَسِيتَ وَحَفِظُوا أَوْ أَخْطَأْتَ وَأَصَابُوا قال الألباني رحمه الله في الصحيحة [6/667] : وقول ابن مسعود ليس نصا في تخطئته لحذيفة في روايته للفظ الحديث، بل لعله خطأه في استدلاله به على العكوف الذي أنكره حذيفة، لاحتمال أن يكون معنى الحديث عند ابن مسعود: لا اعتكاف كاملا، كقوله صلى الله عليه وسلم: " لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له " والله أعلم اهـ أضِف إلى ذلك أن ( لعل ) تُفيد التَّرجِّي ، ولا تفيد القَطْعَ واليقين ، فلو أراد ابن مسعود القطعُ بخطأ حذيفة لاستخدم ما يناسب مَقامَ الكلام ، وما فيه قطعٌ بخطأ حذيفة 0
فلعل أو عَلَّ أصلُها تُفيدُ الشكَّ ، ويقول أهل اللغة عنها أنها تفيد الترجي ، والترجي هو توقُعُ الأمرِ المحبوب 0
إذن : مع لعل  يدخل الاحتمال ، فيَحْتَمل الخطأ من حذيفة ، ويَحْتَمِل من المعتكفين ، وإذا وجِدَ الاحتمال بَطُلَ الاستدلال كما هو معلوم عندَ أهل الأصول
2- قالوا : بالنسخ قال الطحاوي رحمه الله في مشكل الآثار (7/201) : فَتَأَمَّلْنَا هَذَا الْحَدِيثَ فَوَجَدْنَا فِيهِ إِخْبَارَ حُذَيْفَةَ ابْنَ  مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ مَا ذَكَرَهُ لَهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرْكَ ابْنِ مَسْعُودٍ إِنْكَارَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَجَوَابَهُ إِيَّاهُ بِمَا أَجَابَهُ بِهِ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: " لَعَلَّهُمْ حَفِظُوا " نَسَخَ مَا قَدْ ذَكَرْتُهُ مِنْ ذَلِكَ , وَأَصَابُوا فِيمَا قَدْ فَعَلُوا , وَكَانَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] , فَعَمَّ الْمَسَاجِدَ كُلَّهَا بِذَلِكَ , وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ مِنَ الِاعْتِكَافِ فِي مَسَاجِدِ بُلْدَانِهِمْ , إِمَّا مَسَاجِدُ الْجَمَاعَاتِ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا الْجُمُعَاتُ , وَإِمَّا هِيَ وَمَا سِوَاهَا مِنَ الْمَسَاجِدِ الَّتِي لَهَا الْأَئِمَّةُ وَالْمُؤَذِّنُونَ عَلَى مَا قَالَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ , وَاللهَ عَزَّ وَجَلَّ نَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ اهـ وأجيب : النسخ هو : رفع حكم شرعي مُتقدِّم بخطاب شرعي متأخِّر ، مُنفصلٍ عنه مُنافٍ له 0
قلت : إذن يستلزم الأمر وجودَ خطابٍ شرعي مناف لحديث حذيفة ، ويُعلمُ منه أنه متأخر عن حديث حذيفة ، وهذا غيرُ موجود أساسا 0
فإن قيل : وفعل أهل الكوفة ، وتسويغُ الطحاوي رحمه الله بأن قول ابن مسعود فيه (لعلهم حفظوا) من الأدلة ما فيه ( نَسخُ ما قد ذَكَرتَهُ من ذلك ) قلت : وهذا مردود من وجوه : أ- أن فعل أهل الكوفة على الأصل ، وهو العموم
ب- هذا يستلزم أن عموما كان ، ثم وقع تخصيص مع حذيفة ، ثم إباحة جاءت بعد ذلك ، وهذا يستلزم دليلا ، والأدلة لا تَثبُت ب لعل وقول أهل الكوفة جميعا لا يلزم ، فما بالنا بأنه فعلٌ مُحْدَثٌ لبعضِهم ؟
ج- أن معرفة المتقدم من المتأخر تكون بإحدى هذه الطرق : كما في كتاب التأسيس ص (329)
- بتصريح النبي صلى الله عليه وسلم كقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَزُورُوهَا رواه مسلم (1977)
- أو بتصريح صحبي نحو قول عائشة : " كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ: عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ، ثُمَّ نُسِخْنَ، بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ رواه مسلم (1452)
- بمعرفة التاريخ : أي المتقدم من المتأخر ، نحو قوله تعالى : {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66] فلفظ ( الآن ) يَدُلُّ على تأخر الخطاب الشرعي المُقترن بها ، وكذلك كقول الصحابي ( رُخِّصَ لنا في كذا ) فإن الرخصة تكون بعدَ العزيمة 0
- بدلالة الإجماع : فإنها تدل على وجود ناسخ  قال الألباني رحمه الله : هذه دعوى بلا برهان، وقولٌ بلا دليل، إذ ((لا يستدلُّ على الناسخ والمنسوخ إلا بخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بوقت على أن أحدهما بعد الآخر، فيُعلم أن الآخر هو الناسخ أو بقول مَنْ سمع الحديث، أو الإجماع)).
وهذا أمر متفقٌ عليه بين الأصوليين، وإلا لأدّعى كلُّ إنسان نسخَ أي آية أو خبر شاء، وهذا من أنكر الأشياء!! فهل مِنْ دليل على ذلك الزعم؟! " انتهى.
3- قالوا : حديث حذيفة إن سلم من القوادح فهو نفي للكمال،يعني أن الاعتكاف الأكمل ما كان في هذه المساجد الثلاثة، وذلك لشرفها وفضلها على غيرها. ومثل هذا التركيب كثير، أعني أن النفي قد يراد به نفي الكمال، لا نفي الحقيقة والصحة وأجيب : فلا الموجودة في أول الحديث هي النافية للجنس ، وذلك لتَوفُر شروط عملها 0
أ – فقد أتى بعدها اسم اعتكاف 0
ب- لم يَفْصلها عنه شيء 0
ج- وأن اسمها جاء منصوبا 0
فلما علمنا أن لا استوفت شروطها أصبحت نافية لجنس الاعتكاف في غير ما خُصِّصت به في الاستثناء المُلحق بالجملة ، وهي المساجد الثلاثة غير عموم الآية وغير حديث عائشة  وقد استدلوا بعدد من الأحاديث مثل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ، وَلَا هُوَ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ» رواه مسلم (560) وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: مَا خَطَبَنَا نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا قَالَ: " لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ رواه أحمد [12383] وحسنه الألباني وشعيب الأرنؤوط قلت : هذان الحديثان وغيرهما ، نفى عنهما نفي الكمال بأدلة أخرى فقد جاءت الأدلة عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ، فَأَكَلَ مِنْهَا، فَدُعِيَ إِلَى الصَّلاَةِ، فَقَامَ فَطَرَحَ السِّكِّينَ، فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ» رواه البخاري [5422] ومسلم  (355) وكما دلت الأدلة على أن خائن الأمانة لا يخرج من الإيمان بالكلية ، وعلم أن القول بنفي الإيمان عنه بالكلية هو قول الخوارج ، وإلا لصرفنا لا في كلمة التوحيد إلى نفي الكمال فهي نافية للجنس ، وهذا لا ينطق به مسلم
4-  أعل هذا الحديث شيخنا مصطفى العدوي حفظه الله وغيره بالوقف فقال : هذا الحديث لم يصح مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل هو من قول حذيفة بن اليمان رضي الله عنه ، موقوفا عليه قلت: هذا الموقوف لا ينافى المرفوع , لأن الراوى قد ينشط أحيانا فيرفع الحديث , وأحيانا يوقفه , ومن رفعه فهى زيادة من ثقة مقبولة وقد رفعها ثقات كما سيأتي وقبولها واجب كما تقرر في المصطلح قال ابن حجر في التلخيص (1/359) إِذَا رُوِيَ الْحَدِيثُ مَرْفُوعًا تَارَةً وَمَوْقُوفًا أُخْرَى فَالْحُكْمُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَةِ لِلرَّفْعِ وَالنَّوَوِيُّ مِمَّنْ يَعْتَمِدُ ذَلِكَ وَيُكْثِرُ مِنْهُ وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى تَعْلِيلِ الْحَدِيثِ بِهِ إذَا كَانَ الرَّافِعُ ثِقَةً فَيَجِيءُ عَلَى طَرِيقَتِهِ أَنَّ الْمَرْفُوعَ صَحِيحٌ اهـ وفي فتح المغيث (1/220) الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ الرَّاوِيَ إِذَا رَوَى الْحَدِيثَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا فَالْحُكْمُ لِلرَّفْعِ ; لِأَنَّ مَعَهُ فِي حَالَةِ الرَّفْعِ زِيَادَةً، هَذَا هُوَ الْمُرَجَّحُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ. 00والْمَاوَرْدِيّ قَدْ نَقَلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَحْمِلُ الْمَوْقُوفَ عَلَى مَذْهَبِ الرَّاوِي، وَالْمُسْنَدَ عَلَى أَنَّهُ رِوَايَتُهُ، يَعْنِي فَلَا تَعَارُضَ حِينَئِذٍ.
وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْخَطِيبِ: اخْتِلَافُ الرِّوَايَتَيْنِ فِي الرَّفْعِ وَالْوَقْفِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْحَدِيثِ ضَعْفًا ; لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الصَّحَابِيُّ يُسْنِدُ الْحَدِيثَ وَيَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّةً، وَيَذْكُرُ مَرَّةً عَلَى سَبِيلِ الْفَتْوَى بِدُونِ رَفْعٍ، فَيُحْفَظُ الْحَدِيثُ عَنْهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا اهـ
قال الألباني رحمه الله في الصحيحة [6/ 667] : أخرجه الإسماعيلي في " المعجم " (112 / 2) عن شيخه العباس بن أحمد الوشا:حدثنا محمد بن الفرج، والبيهقي في " السنن " (4 / 316) من طريق محمد بن آدم
المروزي، كلاهما عن سفيان بن عيينة عن جامع بن أبي شداد عن أبي وائل قال: قال حذيفة لعبد الله [يعني ابن مسعود رضي الله عنه] : [قوم] عكوف بين دارك ودار أبي موسى لا تغير (وفي رواية: لا تنهاهم) ؟! وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذكره قلت: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين -- ثم رأيت الطحاوي قد أخرج الحديث في " المشكل " (4 / 20) من الوجه المذكور، وادعى نسخه! وكذلك رواه عبد الرزاق في " المصنف " (4 / 348 / 8016) وعنه الطبراني (9 / 350 / 9511) عن ابن عيينة به إلا أنه لم يصرح برفعه. ورواه سعيد ابن منصور: أخبرنا سفيان بن عيينة به ، إلا أنه شك في رفعه واختصره فقال:.. عن شقيق بن سلمة قال: قال حذيفة لعبد الله بن مسعود: قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة، أو قال: مسجد جماعة ". ذكره عنه ابن حزم في " المحلى " (5 / 195) ، ثم رد الحديث بهذا الشك. وهو معذور لأنه لم يقف على رواية الجماعة عن ابن عيينة مرفوعا دون أي شك، وهم: 1 - محمد بن الفرج، عند
الإسماعيلي. 2 - محمود بن آدم المروزي، عند البيهقي. 3 - هشام بن عمار، عند الطحاوي. وكلهم ثقات، وهذه تراجمهم نقلا من " التقريب ": 1 - وهو القرشي مولاهم البغدادي، صدوق من شيوخ مسلم. 2 - صدوق من شيوخ البخاري فيما ذكر ابن عدي. 3 - صدوق مقرىء كبر فصار يتلقن، فحديثه القديم أصح، من شيوخ البخاري أيضا. قلت: فموافقته للثقتين اللذين قبله دليل على أنه قد حفظه، فلا يضرهم من تردد في رفعه أو أوقفه، لأن الرفع زيادة من ثقات يجب قبولها . ثم رأيت الفاكهي قد أخرجه في " أخبار مكة " (2 / 149 / 1334) : حدثنا سعيد بن عبد الرحمن ومحمد بن أبي عمر قالا: حدثنا سفيان به. إلا أنهما لم يشكا، وهذه
فائدة هامة. وهما ثقتان أيضا. وبالجملة، فاتفاق هؤلاء الثقات الخمسة على رفع الحديث دون أي تردد فيه لبرهان قاطع على أن الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم، وأن تردد سعيد بن منصور في رفعه لا يؤثر في صحته، ولاسيما أن سياق القصة يؤكد ذلك عند إمعان النظر فيها، ذلك لأن حذيفة رضي الله عنه ما كان لينكر بمجرد رأيه على ابن مسعود رضي الله عنه سكوته عن أولئك المعتكفين في المساجد بين الدور، وهو يعلم فضله وفقهه رضي الله عنهما، فلولا أن الحديث
عنده مرفوع لما تجرأ على الإنكار عليه بما لا تقوم الحجة به عليه، حتى رواية عبد الرزاق الموقوفة تؤيد ما ذكرته، فإنها بلفظ: " قوم عكوف بين دارك ودار أبي موسى لا تنهاهم! فقال به عبد الله: فلعلهم أصابوا وأخطأت، وحفظوا ونسيت! فقال: حذيفة: لا اعتكاف إلا في هذه المساجد الثلاثة.. " فذكرها. ومثلها رواية إبراهيم قال: " جاء حذيفة إلى عبد الله فقال: ألا أعجبك من قومك عكوف بين دارك ودار الأشعري، يعني المسجد! قال عبد الله: ولعلهم أصابوا
وأخطأت، فقال حذيفة: أما علمت أنه: لا اعتكاف إلا في ثلاثة مساجد. ( فذكرها ) ، وما أبالي أعتكف فيه أو في سوقكم هذه [وكان الذين اعتكفوا - وعاب عليهم حذيفة - في مسجد الكوفة الأكبر] ". أخرجه ابن أبي شيبة في " المصنف " (3 /91) والسياق له، وكذا عبد الرزاق (4 / 347 - 348) والزيادة له، وعنه الطبراني (9510) ورجاله ثقات رجال الشيخين غير أن إبراهيم - وهو النخعي - لم يدرك حذيفة. فاحتجاج حذيفة على ابن مسعود بهذه الجملة " لا اعتكاف " يشعر بأنها في موضع الحجة عنده، وإلا لم يقل له: " أما علمت.. " إلخ. والله أعلم اهـ
بهذا القدر نكتفي سائلين الله عز وجل أن ينفعنا بما علمنا وأن يعلمنا ما ينفعنا  نسأل الله عز وجل أن يرفع راية الْإِسْلام والمسلمين عالية خفاقة وأن ينصر بنصره من أعان على نشر الْإِسْلَام في إرجاء المعمورة
ونسْأَله سبحانه أن يخذل من خذل الْإِسْلام والمسلمين وسعى لنشر الرذيلة وابتغى في  الأَرْض  وصل اللهم وسلم وبارك على عبدك ونبيك  محمد وعلى آله وصحبه أجمعين واخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق