السبت، 10 يونيو 2017

كتاب الحج الجزء الأول عمرو العدوي أبو حبيبة



[كِتَاب الْحَجّ]
ِّ الْحَجُّ فِي اللُّغَةِ: الْقَصْدُ. وَعَنْ الْخَلِيلِ، قَالَ: الْحَجُّ كَثْرَةُ الْقَصْدِ إلَى مَنْ تُعَظِّمُهُ وَفِي الْحَجِّ لُغَتَانِ: الْحَجُّ وَالْحِجُّ، بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا. وَالْحَجُّ فِي الشَّرْعِ: اسْمٌ لَأَفْعَالٍ مَخْصُوصَةٍ يَأْتِي ذِكْرُهَا، إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَهُوَ أَحَدُ الْأَرْكَانِ الْخَمْسَةِ الَّتِي بُنِيَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ، وَالْأَصْلُ فِي وُجُوبِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ؛ أَمَّا الْكِتَابُ، فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] . رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَمِنْ كَفَرَ بِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] . وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ» . وَذَكَرَ فِيهَا الْحَجَّ، - رواه البخاري (8) ومسلم (16) - وَرَوَى مُسْلِمٌ (1337) بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ، فَحُجُّوا»، فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ "، ثُمَّ قَالَ: «ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ». فِي أَخْبَارٍ كَثِيرَةٍ سِوَى هَذَيْنِ، وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً وَاحِدَةً انظر المغني (3/213)
( فضل الحج والعمرة ويوم عرفة )
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ: أَيُّ العَمَلِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: «إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ». قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «حَجٌّ مَبْرُورٌ رواه البخاري (26) ومسلم (83)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَجَّ هَذَا البَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ رواه البخاري (1819) ومسلم (1350)
عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمِ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟ "رواه مسلم (1348) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الجَنَّةُ» رواه البخاري (1773) ومسلم (1349) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " جِهَادُ الْكَبِيرِ، وَالصَّغِيرِ، وَالضَّعِيفِ، وَالْمَرْأَةِ: الْحَجُّ، وَالْعُمْرَةُ " رواه النسائي (2626) وحسنه الألباني وقال وفقرة المرأة صحيحة من حديث عائشة انظر سنن ابن ماجه (2901)
 عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَابِعُوا بَيْنَ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ، وَالذَّهَبِ، وَالفِضَّةِ، وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ المَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلَّا الجَنَّةُ» رواه الترمذي (810) وقال الترمذي والألباني حديث حسن صحيح
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: لَمَّا رَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَجَّتِهِ قَالَ لِأُمِّ سِنَانٍ الأَنْصَارِيَّةِ: «مَا مَنَعَكِ مِنَ الحَجِّ؟»، قَالَتْ: أَبُو فُلاَنٍ، تَعْنِي زَوْجَهَا، كَانَ لَهُ نَاضِحَانِ حَجَّ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَالآخَرُ يَسْقِي أَرْضًا لَنَا، قَالَ: «فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَقْضِي حَجَّةً أَوْ حَجَّةً مَعِي» رواه البخاري (1863) ومسلم (1256)
( أجر العمرة والحج على قدر النصب )
عَنِ الأَسْوَدِ، قَالاَ: قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَصْدُرُ النَّاسُ بِنُسُكَيْنِ، وَأَصْدُرُ بِنُسُكٍ؟ فَقِيلَ لَهَا: «انْتَظِرِي، فَإِذَا طَهُرْتِ، فَاخْرُجِي إِلَى التَّنْعِيمِ، فَأَهِلِّي ثُمَّ ائْتِينَا بِمَكَانِ كَذَا، وَلَكِنَّهَا عَلَى قَدْرِ نَفَقَتِكِ أَوْ نَصَبِكِ» رواه البخاري (1787) ومسلم (1211)
قال النووي في شرح مسلم (8/ 152)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَلَكِنَّهَا عَلَى قَدْرِ نَصَبِكِ أَوْ قَالَ نَفَقَتِكِ) هَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الثَّوَابَ وَالْفَضْلَ فِي الْعِبَادَةِ يَكْثُرُ بِكَثْرَةِ النَّصَبِ وَالنَّفَقَةِ وَالْمُرَادُ النَّصَبُ الَّذِي لَا يَذُمُّهُ الشَّرْعُ وَكَذَا النَّفَقَةُ اهـ
( هل يجب الحج على الفور )
قلت : تنازع العلماء في ذلك على قولين ؟
القول الأول : وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ
: إنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي، وَاحْتَجُّوا 1- بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَجَّ سَنَةَ عَشْرٍ وَفَرْضُ الْحَجِّ كَانَ سَنَةَ سِتٍّ أَوْ خَمْسٍ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ قَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي فُرِضَ فِيهِ الْحَجُّ. وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَقْوَالِ أَنَّهُ فُرِضَ فِي سَنَةِ عَشْرٍ فَلَا تَأْخِيرَ، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّهُ فُرِضَ قَبْلَ الْعَاشِرِ فَتَرَاخِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا كَانَ لَكَرَاهَةِ الِاخْتِلَاطِ فِي الْحَجِّ بِأَهْلِ الشِّرْكِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَحُجُّونَ وَيَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً، فَلَمَّا طَهَّرَ اللَّهُ الْبَيْتَ الْحَرَامَ مِنْهُمْ حَجَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَتَرَاخِيهِ لِعُذْرٍ، وَمَحِلُّ النِّزَاعِ التَّرَاخِي مَعَ عَدَمِهِ انظر نيل الأوطار (4/337)
2- بالقياس على الصلاة في الوقت إن شئت صلها في أول الوقت، وإن شئت فصلها في آخره، والعمر هو وقت الحج، فإن شئت حجَّ أول العمر، وإن شئت آخرَهُ.
قال ابن حزم : فَإِنْ ذَكَرُوا تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ إلَى آخِرِ وَقْتِهَا. قُلْنَا: هَذَا جَاءَ بِهِ النَّصُّ فَأَوْجِدُونَا نَصًّا بَيِّنًا فِي جَوَازِ تَأْخِيرِ الْحَجِّ وَهُوَ قَوْلُكُمْ حِينَئِذٍ، وَلَا سَبِيلَ إلَى هَذَا انظر المحلى (5/ 316)
القول الثاني : وَإِلَى الْقَوْلِ بِالْفَوْرِ ذَهَبَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ انظر نيل الأوطار (4/337) وهو الراجح والدليل : قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133] وَقَالَ - تَعَالَى - {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97]
والأصل في الأمر أن يكون على الفور، ولهذا غضب النبي صلّى الله عليه وسلّم في غزوة الحديبية حين أمرهم بالإحلال وتباطؤوا كما رواه البخاري (2731)
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ، فَلْيَتَعَجَّلْ، فَإِنَّهُ قَدْ يَمْرَضُ الْمَرِيضُ، وَتَضِلُّ الضَّالَّةُ، وَتَعْرِضُ الْحَاجَةُ»رواه ابن ماجه (2883) حديث حسن بطرقه وحسنه الألباني
قال صاحب عون المعبود (5/108) وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ اهـ
قال ابن باز رحمه الله :
الحج يجب على الفور هذا هو الصواب الذي عليه جمهور أهل العلم فالحج يجب المبادرة به على الفور إذا كان قادراً ببدنه وماله أما إذا كان عاجزاً بالمال فلا حج عليه, أو عاجزاً بالبدن لمرض يؤجل حتى يشفى أما القادر بماله, وبدنه فإن الواجب عليه البدار بحجه, والمسارعة إليه لقول الله- سبحانه-: وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ولله على الناس يعني واجب لله على الناس فالواجب البدار بذلك هذا هو الواجب على الرجل والمرأة والأعرابي والحضري على جميع المسلمين يجب عليهم الحج ولو كانوا في أطراف الدنيا في الشرق والغرب يجب عليهم أن يحجوا إذا استطاعوا بالمال والبدن, فإن لم يستطع ببدنه لكبر سنه أو مرض لا يرجى برؤه فإنه يجب أن يستنيب من الثقات الطيبين من يحج عنه ممن قد حج عن نفسه النائب لا بد يكون قد حج عن نفسه سواءً كان رجلاً أو امرأة, وهكذا العاجز لكبر السن كأن يكون كبير السن لا يستطيع يستنيب. جزاكم الله خير ، سماحة الشيخ بعض الناس يتشاغل بأمور عن الحج فقد يتشاغل ببناء مسكن ويتشاغل بالزواج أو بشراء السيارة وما أشبه ذلك هل من كلمة؟ لا يجوز للمؤمن أن يتشاغل عن الحج الواجب من استطاع الحج فالواجب عليه البدار بالحج ولا يجوز التشاغل ببناء مسكن, أو بشراء مزرعة أو ما أشبه ذلك أما الزواج فله شأن آخر إذا احتاج لزواج وخائف على نفسه يبدأ بالزواج؛ لأنه من النفقة اللازمة فإذا احتاج الزواج وخاف على نفسه من تأخير الزواج يبدأ به قبل الحج ثم يحج بعد ذلك, أما إذا كان لا يخشى فإنه يبدأ بالحج. جزاكم الله خيراً وأحسن إليكم ، إذاً من ملك عقاراً وبيوت ومزارع وهو لم يؤدي فريضة الحج بعد يعتبر مخطئ؟ نعم لا يجوز له التساهل عليه التوبة إلى الله من تأخيره وعليه المبادرة بالحج. جزاكم الله خيراً وأحسن إليكم ، وهذا يشمل البعيد والقريب بطبيعة الحال؟ نعم ولو في أمريكا أو في أي مكان أو في روسيا أو في أي مكان من الأرض يلزمه السعي إذا استطاع ذلك. أحسن الله إليكم وجزاكم الله خير الجزاء.اهـ
[ شُرُوطُ وُجُوبِ الْحَجِّ]
ذكر العلماء رحمهم الله شروط وجوب الحج، والتي إذا توفرت في شخص وجب عليه الحج، ولا يجب الحج بدونها، وهي خمسة: الإسلام، العقل، البلوغ، الحرية، الاستطاعة
1- الإسلام وهذا الشأن في جميع العبادات، وذلك لأن العبادة لا تصح من الكافر،بلا خلاف  ولقول الله تعالى: (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ) التوبة/54.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى اليَمَنِ: «إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَإِذَا جِئْتَهُمْ، فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ»
 رواه البخاري (1496) ومسلم (19) فالكافر يؤمر أولاً بالدخول في الإسلام، فإذا أسلم أمرناه بالصلاة والزكاة والصيام والحج وسائر شرائع الإسلام.
2 - العقل
يُشْتَرَطُ لِفَرْضِيَّةِ الْحَجِّ الْعَقْل، لأَِنَّ الْعَقْل شَرْطٌ لِلتَّكْلِيفِ وَالْمَجْنُونُ لَيْسَ مُكَلَّفًا بِفُرُوضِ الدِّينِ، بَل لاَ تَصِحُّ مِنْهُ إِجْمَاعًا، لأَِنَّهُ لَيْسَ أَهْلاً لِلْعِبَادَةِ، فَلَوْ حَجَّ الْمَجْنُونُ فَحَجُّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِذَا شُفِيَ مِنْ مَرَضِهِ وَأَفَاقَ إِلَى رُشْدِهِ تَجِبُ عَلَيْهِ حَجَّةُ الإِْسْلاَمِ.
رَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ، عَنِ الْمَجْنُونِ الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ حَتَّى يَفِيقَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ» رواه أبو داود (4401) وصححه الألباني
3- البلوغ ، يُشْتَرَطُ الْبُلُوغُ، لأَِنَّ الصَّبِيَّ لَيْسَ
بِمُكَلَّفٍ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: رَفَعَتِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا لَهَا فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَال: نَعَمْ وَلَكِ أَجْرٌ.- رواه مسلم (1336) - فَلَوْ حَجَّ الصَّبِيُّ صَحَّ حَجُّهُ وَكَانَ تَطَوُّعًا، فَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ وَجَبَ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْفَرِيضَةِ، بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ، لأَِنَّهُ أَدَّى مَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، فَلاَ يَكْفِيهِ عَنِ الْحَجِّ الْوَاجِبِ بَعْدَ الْبُلُوغِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا حَجَّ الصَّبِيُّ فَهِيَ لَهُ حَجَّةٌ حَتَّى يَعْقِل، وَإِذَا عَقَل فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى، وَإِذَا حَجَّ الأَْعْرَابِيُّ فَهِيَ لَهُ حَجَّةٌ، فَإِذَا هَاجَرَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى.- رواه الحاكم فى " المستدرك " (1/481) صححه ابن حجر والألباني كما في الإرواء (4/ 156)  - انظر الموسوعة الفقهية (17/27)  
قال النووي في المجموع (7/39) (وَأَمَّا) صِحَّةُ حَجِّ الصَّبِيِّ فَهُوَ مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَدَاوُد وَجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَأَشَارَ ابْنُ الْمُنْذِرِ إلَى الْإِجْمَاعِ فِيهِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ لَا يَصِحُّ حَجُّهُ وَصَحَّحَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ
* وَاحْتُجَّ لَهُ بِحَدِيثِ (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ) إلَى آخِرِهِ وَهُوَ صَحِيحٌ سَبَقَ بَيَانُهُ قَرِيبًا وَقِيَاسًا عَلَى النَّذْرِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ وَلِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ لانه لَوْ صَحَّ مِنْهُ لَوَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ إذَا أَفْسَدَهُ وَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ فَلَا يَصِحُّ عَقْدُهَا مِنْ الْوَلِيِّ لِلصَّبِيِّ كَالصَّلَاةِ
* وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ اهـ
 قال ابن قدامة في المغني (3/241) أَنَّ الصَّبِيَّ يَصِحُّ حَجُّهُ، فَإِنْ كَانَ مُمَيِّزًا أَحْرَمَ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُمَيِّزٍ أَحْرَمَ عَنْهُ وَلِيُّهُ؛ فَيَصِيرُ مُحْرِمًا بِذَلِكَ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَرَوِيَ عَنْ عَطَاءٍ، وَالنَّخَعِيِّ.اهـ
4- الْحُرِّيَّةُ:
- قال جمهور العلماء - الْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ، لأَِنَّهُ مُسْتَغْرَقٌ فِي خِدْمَةِ سَيِّدِهِ، وَلأَِنَّ الاِسْتِطَاعَةَ شَرْطٌ وَلاَ تَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِمِلْكِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَالْعَبْدُ لاَ يَتَمَلَّكُ شَيْئًا، فَلَوْ حَجَّ الْمَمْلُوكُ وَلَوْ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ صَحَّ حَجُّهُ وَكَانَ تَطَوُّعًا لاَ يَسْقُطُ بِهِ الْفَرْضُ، وَيَأْثَمُ إِذَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ سَيِّدُهُ بِذَلِكَ. وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ حَجَّةَ الإِْسْلاَمِ عِنْدَمَا يُعْتَقُ - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  أَيُّمَا عَبْدٍ حَجِّ ثُمَّ أُعْتِقَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى» صححه ابن حجر والألباني كما في الإرواء (4/ 156)  - وخالف في ذلك ابن حزم فذهب إلى صحة حج العبد وقول الجمهور ارجح  .
5- الاستطاعة (القدرة)
قال الله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا) آل عمران/97.
قال في المغني الْحَجّ إنَّمَا يَجِبُ بِخَمْسِ شَرَائِطَ: الْإِسْلَامُ، وَالْعَقْلُ، وَالْبُلُوغُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالِاسْتِطَاعَةُ. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا كُلِّهِ اخْتِلَافًا انظر المغني (3/213)
( بما تحقق الاستطاعة )
اخْتلفُوا هَل الزَّاد وَالرَّاحِلَة من شَرط وجوب الْحَج؟
فَقَالَ الشَّافِعِي وَأَبُو حنيفَة وَأحمد: هِيَ من شُرُوطه، وَهِي الِاسْتِطَاعَة.
وَقَالَ مَالك: ليستا من شُرُوط وُجُوبه، وَإِذا كَانَ قَادِرًا على الْوُصُول إِلَى مَكَّة مَاشِيا أَو رَاكِبًا فَهِيَ الِاسْتِطَاعَة فَأَما الزَّاد فيكتسبه بصنعة إِن كَانَت لَهُ، أَبُو بِالسِّوَاكِ إِن كَانَ مِمَّن لَهُ عَادَة بِهِ انظر اختلاف الأ ئمة العلماء (1/273)
عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يُوجِبُ الحَجَّ؟ قَالَ: «الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ» رواه الترمذي (813) وقال  «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ» وَالعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ: أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً وَجَبَ عَلَيْهِ الحَجُّ اهـ وصححه الحاكم والذهبي وحسنه ابن تيمية وقال الشوكاني في نيل الأوطار (3/341) وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذِهِ الطُّرُقَ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا فَتَصْلُحُ لِلِاحْتِجَاجِ بِهَا وَبِذَلِكَ اسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ: إنَّ الِاسْتِطَاعَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْقُرْآنِ هِيَ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ اهـ وضعفه الألباني ثم حسنه لغيره انظر تراجعات الألباني (194)
معنى الزاد : نفقة الحج أي : بعد قضاء الواجبات ، والنفقات الشرعية ، والحوائج الأصلية و( الراحلة ) : وسيلة النقل التي ينتقل بها بأن تكون صالحة لمثله ، وأما إن كانت غير صالحة لمثله فلا يجب عليه 0
ومعنى ( بعد قضاء الواجبات ) كقضاء الديون ، والكفارات والنذور ونحو ذلك 0 ومعنى ( النفقات الشرعية ) أي : التي يبيحها الشرع كالنفقة له ولعياله بغير إسراف ، بحيث يكفيه ذلك ومن يعولهم إلى أن يرجع من الحج كما ذهب إلى ذلك بعض العلماء 0
وأما ( الحوائج الأصلية ) فما يحتاجه من كتب وأقلام ، وآلات صنعته ، ونحو ذلك انظر تمام المنة لشيخنا العزازي (2/324)
قال ابن تيمية رحمه الله في شرح العمدة (1/129)
فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ مُسْنَدَةً مِنْ طُرُقٍ حِسَانٍ وَمُرْسَلَةً وَمَوْقُوفَةً تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنَاطَ الْوُجُوبِ: وُجُودُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ مَعَ عِلْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَقْدِرُونَ عَلَى الْمَشْيِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ - فِي الْحَجِّ: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] إِمَّا أَنْ يَعْنِيَ بِهِ الْقُدْرَةَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ وَهُوَ مُطْلَقُ الْمَكِنَةِ، أَوْ قَدْرًا زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْأَوَّلَ، لَمْ يُحْتَجْ إِلَى هَذَا التَّقْيِيدِ، كَمَا لَمْ يُحْتَجْ إِلَيْهِ فِي آيَةِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى ذَلِكَ، وَلَيْسَ هُوَ إِلَّا الْمَالَ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ تَفْتَقِرُ إِلَى مَسَافَةٍ، فَافْتَقَرَ وُجُوبُهَا إِلَى مِلْكِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ كَالْجِهَادِ.
وَدَلِيلُ الْأَصْلِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} [التوبة: 91] إِلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} [التوبة: 92] الْآيَةَ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَشْيَ فِي الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ مَظِنَّةُ الْمَشَقَّةِ الْعَظِيمَةِ اهـ
( هل يجوز سفر المرأة بدون مَحرَم للحج )
قلت : تنازع العلماء في ذلك على قولين ؟
القول الأول : قالوا : لا يجوز سفر المرأة بدون محرم مطلقا حتى ولو كان السفر للحج وبهذا القول قال الحسن والنخعي وأحمد وإسحاق وابن المنذر وأصحاب الرأي، انظر اللجنة الدائمة (11/90)  وحجتهم : عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ: سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ، وَلاَ تُسَافِرَنَّ امْرَأَةٌ إِلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ»، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا، وَخَرَجَتِ امْرَأَتِي حَاجَّةً، قَالَ: «اذْهَبْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ رواه البخاري (3006) ومسلم(1341) دَلَّ الحديث عَلَى تَحْرِيمِ سَفَرِ الْمَرْأَةِ مِنْ غَيْرِ مَحْرَمٍ قالوا : في اللجنة الدائمة (11/90) المرأة التي لا محرم لها لا يجب عليها الحج؛ لأن المحرم بالنسبة لها من السبيل، واستطاعة السبيل شرط في وجوب الحج، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}  ولا يجوز لها أن تسافر للحج أو غيره إلا ومعها زوج أو محرم لها؛ لما رواه البخاري ومسلم، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:00 الحديث وبهذا القول قال الحسن والنخعي وأحمد وإسحاق وابن المنذر وأصحاب الرأي، وهو الصحيح؛ للآية المذكورة، مع عموم أحاديث نهي المرأة عن السفر بلا زوج أو محرم، وخالف في ذلك مالك والشافعي والأوزاعي، واشترط كل منهم شرطا لا حجة له عليه، قال ابن المنذر: تركوا القول بظاهر الحديث، واشترط كل منهم شرطا لا حجة له عليه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
القول الثاني : يجوز للمرأة أن تسافر للحج مع صحبة آمنة ولا يشترط المحرم وهو مذهب مالك والشافعي والأوزاعي انظر اللجنة الدائمة (11/90)  وابن حزم وابن تيمية وهو الراجح
والدليل : 1- قال الله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا) آل عمران/97 وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فسر السبيل بالزاد والراحلة كما سبق من حديث ابن عمر فهذا الحديث صرف حديث ابن عباس السابق إلى الاستحباب 0
2- إذن عمر رضي الله عنه لنساء النبي صلى الله عليه وسلم بالحج في آخر حجة حجها ، وإرسال عثمان وعبد الرحمن بن عوف معهن كما عند البخاري (4/72 فتح الباري)
(قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى – في الأم (2/ 127) : وَإِذَا كَانَ فِيمَا يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّبِيلَ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ وَكَانَتْ الْمَرْأَةُ تَجِدُهُمَا وَكَانَتْ مَعَ ثِقَةٍ مِنْ النِّسَاءِ فِي طَرِيقٍ مَأْهُولَةٍ آمِنَةٍ فَهِيَ مِمَّنْ عَلَيْهِ الْحَجُّ عِنْدِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَسْتَثْنِ فِيمَا يُوجِبُ الْحَجَّ إلَّا الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعَ حُرَّةٍ مُسْلِمَةٍ ثِقَةٍ مِنْ النِّسَاءِ فَصَاعِدًا لَمْ تَخْرُجْ مَعَ رِجَالٍ لَا امْرَأَةَ مَعَهُمْ وَلَا مَحْرَمَ لَهَا مِنْهُمْ، وَقَدْ بَلَغَنَا عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلُ قَوْلِنَا فِي أَنْ تُسَافِرَ الْمَرْأَةُ لِلْحَجِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا مَحْرَمٌ، أَخْبَرَنَا مُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ سُئِلَ عَطَاءٌ عَنْ امْرَأَةٍ لَيْسَ مَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ وَلَا زَوْجَ مَعَهَا وَلَكِنْ مَعَهَا وَلَائِدُ وَمَوْلَيَاتٌ يَلِينَ إنْزَالَهَا وَحِفْظَهَا وَرَفْعَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. فَلْتَحُجَّ اهـ
( من صور المحرم )
1- ما حرم بالنسب كابن المرأة وإن نزل ، وأبيها وإن علا ، وأخيها وابن أخيها وابن أختها وخالها وعمها و000
2- ما حرم بالرضاع وصورتهم مقاربة للصورة المتقدمة ، كالأخ وابن الأخ والعم والخال و 000 من الرضاع
3- ما حرم بالمصاهرة كأبي الزوج وابن الزوج وزوج البنت انظر أحكام النساء ( 2/455)
( من عجز أو مات وعليه حج فرض أو نذر )
قلت : تنازع العلماء في ذلك على قولين ؟
القول الأول : قَالَ مَالِكٌ: لَا حَجَّ عَلَيْهِ، إلَّا أَنْ يَسْتَطِيعَ بِنَفْسِهِ، وَلَا أَرَى لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] . وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ، وَلِأَنَّ هَذِهِ عِبَادَةٌ لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ، فَلَا تَدْخُلُهَا مَعَ الْعَجْزِ، كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ انظر المغني (3/222)
القول الثاني : جواز الحج عن الشيخ الْفَانِي أو المريض الذي لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ، أَوْ شَيْخًا لَا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّاحِلَةِ،ونحو ذلك وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ وأحمد انظر المغني (3/221) وهو الراجح والدليل : عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ رَدِيفَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ تَسْتَفْتِيهِ، فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الْآخَرِ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ، أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ رواه البخاري (1513) ومسلم (1334) وأحاديث اخرى في معناه
قال ابن حزم في المحلى (5/34)
فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ قَطُّ صَحِيحًا فَإِنَّ فَرِيضَةَ الْحَجِّ لَازِمَةٌ لَهُ إذَا وَجَدَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سَمِعَ قَوْلَ الْمَرْأَةِ عَنْ أَبِيهَا: «إنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ تَعَالَى أَدْرَكَتْهُ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَطِيعُ الثَّبَاتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ» ، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهَا، وَلَا عَلَى أَبِي رَزِينٍ مِثْلَ ذَلِكَ فِي أَبِيهِ؛ فَصَحَّ أَنَّ الْفَرْضَ بَاقٍ عَلَى هَذَيْنِ إذَا وَجَدَا مَنْ يَحُجُّ عَنْهُمَا اهـ
( إذا عوفي المعضوب أي الضعيف الذي لا يقدر على النهوض )
تنازع العلماء في ذلك على قولين ؟
القول الأول : قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا بَدَلُ إيَاسٍ، فَإِذَا بَرَأَ، تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَأْيُوسًا مِنْهُ، فَلَزِمَهُ انظر المغني (3/222)
القول الثاني : مَتَى أَحَجَّ هَذَا عَنْ نَفْسِهِ، ثُمَّ عُوفِيَ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ حَجٌّ آخَرُ. وَهَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ وأحمد انظر المغني (3/222) وابن حزم وهو الراجح لأن وجوب القضاء إذا زال عذره فمحتاج إلى دليل
قال ابن حزم في المحلى (5/40)
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: فَإِنْ حَجَّ عَمَّنْ لَمْ يُطِقْ الرُّكُوبَ وَالْمَشْيَ لِمَرَضٍ أَوْ زَمَانَةٍ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَفَاقَ؛ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيَّ قَالَا: عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ وَلَا بُدَّ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ بَعْدُ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: إذَا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحَجِّ عَمَّنْ لَا يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ رَاكِبًا وَلَا مَاشِيًا، وَأَخْبَرَ: أَنَّهُ دَيْنُ اللَّهِ يُقْضَى عَنْهُ؛ فَقَدْ تَأَدَّى الدَّيْنُ بِلَا شَكٍّ وَأَجْزَأَ عَنْهُ، وَبِلَا شَكٍّ أَنَّ مَا سَقَطَ وَتَأَدَّى، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ فَرْضُهُ بِذَلِكَ؛ إلَّا بِنَصٍّ وَلَا نَصَّ هَاهُنَا أَصْلًا بِعَوْدَتِهِ - وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عَائِدًا لَبَيَّنَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ذَلِكَ؛ إذْ قَدْ يَقْوَى الشَّيْخُ فَيُطِيقُ الرُّكُوبَ؛ فَإِذْ لَمْ يُخْبِرْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ عَوْدَةُ الْفَرْضِ عَلَيْهِ بَعْدَ صِحَّةِ تَأَدِّيهِ عَنْهُ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
فوائد :
1- قال ابن قدامة في المغني (3/223) وَمَنْ يُرْجَى زَوَالُ مَرَضِهِ، وَالْمَحْبُوسُ وَنَحْوُهُ، لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ. فَإِنْ فَعَلَ، لَمْ يُجْزِئْهُ، وَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَهُ ذَلِكَ. وَيَكُونُ ذَلِكَ مُرَاعًى، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ لَزِمَهُ، وَإِلَّا أَجْزَأَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، أَشْبَهَ الْمَيْئُوسَ مِنْ بُرْئِهِ.
وَلَنَا، أَنَّهُ يَرْجُو الْقُدْرَةَ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الِاسْتِنَابَةُ، وَلَا تُجْزِئُهُ إنْ فَعَلَ، كَالْفَقِيرِ، وَفَارَقَ الْمَأْيُوسَ مِنْ بُرْئِهِ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، آيِسٌ مِنْ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ، فَأَشْبَهَ الْمَيِّتَ. وَلِأَنَّ النَّصَّ إنَّمَا وَرَدَ فِي الْحَجِّ عَنْ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ، وَهُوَ مِمَّنْ لَا يُرْجَى مِنْهُ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ، فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ إلَّا مَنْ كَانَ مِثْلَهُ. فَعَلَى هَذَا إذَا اسْتَنَابَ مَنْ يَرْجُو الْقُدْرَةَ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ صَارَ مَأْيُوسًا مِنْ بُرْئِهِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ مَرَّةً أُخْرَى؛ لِأَنَّهُ اسْتَنَابَ فِي حَالٍ لَا تَجُوزُ لَهُ الِاسْتِنَابَةُ فِيهَا، فَأَشْبَهَ الصَّحِيحَ.
2-  لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ فِي الْحَجِّ الْوَاجِبِ إجْمَاعًا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَحُجَّ، لَا يُجْزِئُ عَنْهُ أَنْ يَحُجَّ غَيْرُهُ عَنْهُ، وَالْحَجُّ الْمَنْذُورُ كَحَجَّةِ الْإِسْلَامِ، فِي إبَاحَةِ الِاسْتِنَابَةِ عِنْد الْعَجْزِ، وَالْمَنْعِ مِنْهَا مَعَ الْقُدْرَةِ؛ لِأَنَّهَا حَجَّةٌ وَاجِبَةٌ انظر المغني (3/223)
( هل يحج عن الميت سواء أوصى أو لم يوص )
تنازع العلماء في ذلك على قولين ؟
القول الأول : لا يجوز الحج عن الميت إلا إذا أوصى بذلك وحجتهم أنه لا يجوز أن يصلي أحد عن أحد والحج كذلك وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك انظر المجموع (7/ 112)
القول الثاني : وجوب الحج عن الميت، - سَوَاءٌ أَوْصَى أَمْ لَمْ يُوصِ؛وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَالشَّافِعِيُّ وأحمد وهو الراجح والدليل : عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَمَاتَتْ قَبْلَ أَنْ تَحُجَّ، أَفَأَحُجَّ عَنْهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ، حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟»، قَالَتْ: نَعَمْ، فَقَالَ: «اقْضُوا اللَّهَ الَّذِي لَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ أَحَقُّ بِالوَفَاءِ رواه البخاري (7315)  قال الصنعاني رحمه الله : - دَلَّ – الحديث -عَلَى وُجُوبِ التَّحْجِيجِ عَنْ الْمَيِّتِ سَوَاءٌ أَوْصَى أَمْ لَمْ يُوصِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَجِبُ قَضَاؤُهُ مُطْلَقًا وَكَذَا سَائِرُ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ مِنْ كَفَّارَةٍ وَنَحْوِهَا. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَالشَّافِعِيُّ.
وَيَجِبُ إخْرَاجُ الْأُجْرَةِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ عِنْدَهُمْ وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى دَيْنِ الْآدَمِيِّ وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] الْآيَةَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَامٌّ خَصَّهُ هَذَا الْحَدِيثُ أَوْ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْكَافِرِ وَقِيلَ: اللَّامُ فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى عَلَى أَيْ لَيْسَ عَلَيْهِ مِثْلُ {وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ} [غافر: 52] أَيْ عَلَيْهِمْ وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي هَذَا فِي حَوَاشِي ضَوْءِ النَّهَارِ انظر سبل السلام (1/606)
(هل يشترط في الحج عن الغير أن يكون حج عن نفسه )
قلت : تنازع العلماء في ذلك على قولين ؟
القول الأول : قال الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه لا يحج عن غيره من لم يحج عن نفسه وهو قول الأوزاعي انظر معالم السنن (2/173) ودليلهم : عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ، قَالَ: «مَنْ شُبْرُمَةُ؟» قَالَ: أَخٌ لِي - أَوْ قَرِيبٌ لِي - قَالَ: «حَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ؟» قَالَ: لَا، قَالَ: «حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ رواه أبو داود (1811) حديث صحيح وصححه ابن حجر والألباني 0
قال الشوكاني في نيل الأوطار (4/ 347)
وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَنْ لَمْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُسْتَطِيعًا أَوْ غَيْرَ مُسْتَطِيعٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَسْتَفْصِلْ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي سَمِعَهُ يُلَبِّي عَنْ شُبْرُمَةَ وَهُوَ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ اهـ
القول الثاني : قال أصحاب الرأي له أن يحج عن غيره قبل أن يحج عن نفسه، وقال الثوري نحوا من ذلك وهو قول مالك بن أنس.انظر معالم السنن (2/173) وهو الراجح والدليل : عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ رَدِيفَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ تَسْتَفْتِيهِ، فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الْآخَرِ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ، أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ رواه البخاري (1513) ومسلم (1334) أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ، تَقَدُّمَ حَجِّهَا عَنْ نَفْسِهَا فلا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة فهذا الحديث صرف حديث شبرمه إلى الاستحباب
(هل يحج الرجل عن المرأة وتحج المرأة عن الرجل)
ذهب الأئمة الأربعة وغيرهم إلى جواز حج الرجل عن المرأة والمرأة تحج عن الرجل والدليل : 1- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ، جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَةً؟ اقْضُوا اللَّهَ فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالوَفَاءِ» رواه البخاري (1852) قال ابن حجر في فتح الباري (4/65) قَوْلُهُ وَالرَّجُلُ يَحُجُّ عَنِ الْمَرْأَةِ يَعْنِي أَنَّ حَدِيثَ الْبَابِ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْحُكْمَيْنِ وَفِيهِ عَلَى الْحُكْمِ الثَّانِي نَظَرٌ لِأَنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ إِنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ عَنْ نَذْرٍ كَانَ عَلَى أَبِيهَا فَكَانَ حَقُّ التَّرْجَمَةِ أَنْ يَقُول وَالْمَرْأَة تحج عَن الرجل وَأجَاب بن بَطَّالٍ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاطَبَ الْمَرْأَةَ بِخِطَابٍ دَخَلَ فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَهُوَ قَوْلُهُ اقْضُوا اللَّهَ قَالَ وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ حَجِّ الرَّجُلِ عَنِ الْمَرْأَةِ وَالْمَرْأَةِ عَنِ الرَّجُلِ وَلَمْ يُخَالِفْ فِي جَوَازِ حَجِّ الرَّجُلِ عَنِ الْمَرْأَةِ وَالْمَرْأَةِ عَنِ الرَّجُلِ إِلَّا الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ انْتَهَى وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ بِالتَّرْجَمَةِ إِلَى رِوَايَةِ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ الْحَدِيثَ وَفِيهِ فَاقْضِ اللَّهَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ النُّذُورِ وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ اهـ
2- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ رَدِيفَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ تَسْتَفْتِيهِ، فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الْآخَرِ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ، أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ رواه البخاري (1513) ومسلم (1334)
عَنْ أَبِي رَزِينٍ العُقَيْلِيِّ، أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَطِيعُ الحَجَّ، وَلَا العُمْرَةَ، وَلَا الظَّعْنَ، قَالَ: «حُجَّ عَنْ أَبِيكَ وَاعْتَمِرْ»: رواه الترمذي (930) وقال هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيح – وصححه الألباني
قال ابن قدامة في المغني (3/ 226) يَجُوزُ أَنْ يَنُوبَ الرَّجُلُ عَنْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَالْمَرْأَةُ عَنْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، فِي الْحَجِّ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا، إلَّا الْحَسَنَ بْنَ صَالِحٍ، فَإِنَّهُ كَرِهَ حَجَّ الْمَرْأَةِ عَنْ الرَّجُلِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: هَذِهِ غَفْلَةٌ عَنْ ظَاهِرِ السُّنَّةِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ الْمَرْأَةَ أَنْ تَحُجَّ عَنْ أَبِيهَا، وَعَلَيْهِ؛ يَعْتَمِدُ مَنْ أَجَازَ حَجَّ الْمَرْءِ عَنْ غَيْرِهِ وَفِي الْبَابِ حَدِيثُ أَبِي رَزِينٍ، وَأَحَادِيثُ سِوَاهُ اهـ
( الذكر عند الخروج لسفر الحج وغيره وعند الرجوع من السفر )
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَفَلَ مِنْ غَزْوٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، يُكَبِّرُ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ مِنَ الأَرْضِ ثَلاَثَ تَكْبِيرَاتٍ، ثُمَّ يَقُولُ: «لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ سَاجِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ رواه البخاري (1797) ومسلم (1344)
عن ابن عمر رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اسْتَوَى عَلَى بَعِيرِهِ خَارِجًا إِلَى سَفَرٍ، كَبَّرَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: «سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا، وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ، وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ، اللهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى، وَمِنَ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى، اللهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا، وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ، اللهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ، اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ الْمَنْظَرِ، وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ فِي الْمَالِ وَالْأَهْلِ»، وَإِذَا رَجَعَ قَالَهُنَّ وَزَادَ فِيهِنَّ: «آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ رواه مسلم (1342)
( باب : المواقيت )
المواقيت : جمع ميقات ، مأخوذ من الوقت ، وهو قسمان : ميقات زماني ، وميقات مكاني 0
أولا : المواقيت الزمانية :
المقصود بالمواقيت الزمانية : الوقت الذي لا يصح شيء من أعمال الحج إلا فيه ، وهذه المواقيت هي المذكورة في قوله تعالى : {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]
قلت : تنازع العلماء في أشهر الحج على قولين :
القول الأول : (وَأَشْهُرُ الْحَجِّ: شَوَّالٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ) هَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَعَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ انظر المغني (3/275)
القول الثاني : أَشْهُرُ الْحَجِّ شَوَّالٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ. انظر المغني (3/275) وهو مذهب ابن حزم ورجحه ابن عثيمين وهو الراجح والدليل : قوله تعالى : الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] ولم يقل : شهرين وبعض شهر ، ومعلوم أن أقل الجمع ثلاث وأيضا فإن بعض أعمال الحج تقع يوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر كما سيأتي 0
قال ابن حزم في المحلى (5/51) وَأَشْهُرُ الْحَجِّ: شَوَّالٌ، وَذُو الْقِعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَقَالَ قَوْمٌ: شَوَّالٌ، وَذُو الْقِعْدَةِ، وَعَشَرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ.
رُوِّينَا قَوْلَنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَصَحَّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ، وَعَطَاءٍ.
وَرُوِّينَا الْقَوْلَ الْآخَرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَرُوِّينَا عَنْ الْحَسَنِ: شَوَّالٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَصَدْرُ ذِي الْحِجَّةِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: قَالَ تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] وَلَا يُطْلَقُ عَلَى شَهْرَيْنِ، وَبَعْضٍ آخَرَ: أَشْهُرٌ، وَأَيْضًا فَإِنَّ رَمْيَ الْجِمَارِ - وَهُوَ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ - يُعْمَلُ الْيَوْمَ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَطَوَافُ الْإِفَاضَةِ - وَهُوَ مِنْ فَرَائِضِ الْحَجِّ - يُعْمَلُ فِي ذِي الْحِجَّةِ كُلِّهِ بِلَا خِلَافٍ مِنْهُمْ؛ فَصَحَّ أَنَّهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ اهـ
فائدة :
 أَمَّا الْعُمْرَةُ: فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِهَا فِي كُلِّ أَوْقَاتِ السَّنَّةِ انظر بداية المجتهد (2/90)
ثانيا : المواقيت المكانية :
وهي أماكن وقتَّها الشرع -أي حددها- ليُحرم منها من أراد الحج أو العمرة ولا يجوز له أن يتجاوزها -إن كان قاصدًا للحج أو العمرة- دون أن يحرم، وهذه المواقيت لكل من مرَّ بها- مريدًا للنسك سواء كان من أهل تلك الجهات أو لم يكن، وهذه الأماكن:
1 - ذو الحليفة: لأهل المدينة، وهي المعروفة الآن «بآبار علي».
2 - الجحفة: وهي لأهل الشام ومصر والمغرب، وهي قريبة من «رابغ» التي جُعلت الآن الميقات.
3 - قرن المنازل: وهي لأهل نجد، وهي المعروفة الآن بـ «وادي السيل».
4 – يلملم – السعدية -: وهي لأهل اليمن.
وهذه المواقيت الأربعة متفق عليها، لحديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ المَدِينَةِ ذَا الحُلَيْفَةِ، وَلِأَهْلِ الشَّأْمِ الجُحْفَةَ، وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ المَنَازِلِ، وَلِأَهْلِ اليَمَنِ يَلَمْلَمَ، فَهُنَّ لَهُنَّ، وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ لِمَنْ كَانَ يُرِيدُ الحَجَّ وَالعُمْرَةَ، فَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ، فَمُهَلُّهُ مِنْ أَهْلِهِ، وَكَذَاكَ حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْهَا» رواه البخاري (1526) ومسلم (1181)
5 - ذات عِرْق: لأهل العراق والمشرق، وهذا المكان قريب من «العقيق» وقد اختلف فيمن وَقَّته، فقيل عمر، لحديث ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: لَمَّا فُتِحَ هَذَانِ المِصْرَانِ (يعني البصرة والكوفة) أَتَوْا عُمَرَ، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّ لِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا»، وَهُوَ جَوْرٌ عَنْ طَرِيقِنَا، وَإِنَّا إِنْ أَرَدْنَا قَرْنًا شَقَّ عَلَيْنَا، قَالَ: فَانْظُرُوا حَذْوَهَا مِنْ طَرِيقِكُمْ، فَحَدَّ لَهُمْ ذَاتَ عِرْق رواه البخاري (1531)
وقيل: بل حدَّه النبي صلى الله عليه وسلم، لحديث جابر: «مُهَلُّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ الْجُحْفَةُ، وَمُهَلُّ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ، وَمُهَلُّ أَهْلِ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ، وَمُهَلُّ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ» - رواه مسلم (1183)- وهو مختلف في رفعه، لكن يؤيد الرفع حديث عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَقَّتَ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ - رواه أبو داود (1739) وصححه الألباني - 0ويجمع بأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي وقته وخفى علمه على عمر رضي الله عنه فاجتهد فوافق السنة وكم له من موافقات للشرع!!
المقيم بمكة ميقاته: منازل مكة، والمقيم بين مكة وأحد هذه المواقيت فميقاته منزله.
من كان طريق لا تمر بشيء من هذه المواقيت، فإذا علم أنه حاذى أقربها منه أحرم منه، ومن كان في طائرة فإنه يحرم إذا حاذى الميقات وكان فوقه، ويكون متأهبًا قبل الإحرام بأن يلبس ثياب الإحرام قبل محاذاة الميقات، فإذا حاذاه نوى الإحرام في الحال، لا أن يؤخره إلى أن يهبط انظر «أوضح المسالك إلى أحكام المناسك» للسلمان (ص: 42، 43) باختصار
( هل يجوز الإحرام قبل الميقات )
ذهب أكثر أهل العلم إلى جواز الإحرام قبل الميقات وأجمعوا على أن الأفضل هو الإحرام من الميقات اتباعا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وخشية أن يضيق على نفسه ، وهذا مذهب مالك وأحمد وغيرهما 0
وقال الشافعي وأبو حنيفة : الإحرام قبل الميقات أفضل لمن قوي عليه ، ولا حجة لهم في هذا القول لأن الأفضل بلا شك هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحرم هو ولا أصحابه قبل الميقات انظر بداية المجتهد (1/405)
قال النووي في المجموع (7/201)
عَلَى الْجُمْلَةِ أَنَّ الْإِحْرَامَ مِنْ الْمِيقَاتِ أَفْضَلُ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةُ الْمَشْهُورَةُ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْرَمَ فِي حَجَّتِهِ مِنْ الْمِيقَاتِ) وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ اهـ
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ قَبْلَ الْمِيقَاتِ أَنَّهُ مُحْرِمٌ انظر المغني (3/250)
( باب الإحرام )
«الإحرام» مأخوذ من التحريم، ومعنى أحرم أي: دخل في الحرام، كأنجد، أي: دخل في نجد، ولهذا يقال للتكبيرة الأولى من الصلاة تكبيرة الإحرام؛ لأنه بها يدخل في التحريم، أي: تحريم ما يحرم على المصلي، أما المراد به هنا فقوله:
«نية النسك» ، يعني نية الدخول فيه، لا نية أنه يعتمر، أو أنه يحج، وبين الأمرين فرق، فمثلاً إذا كان الرجل يريد أن يحج هذا العام، فهل نقول إنه بنيته هذه أحرم؟
الجواب: لا؛ لأنه لم ينو الدخول في النسك.
وكذلك نريد أن نصلي العشاء، فهل نحن بنيتنا هذه دخلنا في الصلاة، وحرم علينا ما يحرم على المصلي؟
الجواب: لا، إذاً، نية الفعل لا توثر، لكن نية الدخول فيه هي التي تؤثر، وسميت نية الدخول في النسك إحراماً؛ لأنه إذا نوى الدخول في النسك حرم على نفسه ما كان مباحاً قبل الإحرام، فيحرم عليه مثلاً: الرفث، والطيب، وحلق الرأس، والصيد، وغير ذلك انظر الشرح الممتع (7/60)
( أنواع الإحرام )
1- إفراد 2- تمتع 3- قران
يُؤدىَّ الحج على كيفيات (أو أنساك) ثلاث:
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالحَجِّ رواه البخاري (1562) ومسلم (1211)
1 - الإفراد: وهو أن يهلَّ (أي ينوي) الحاجُّ بالحجِّ فقط عند إحرامه قائلاً: لبيك اللهم بحج، ثم يأتي بأعمال الحج وحده.
ذهب أكثر أهل العلم على جواز الحج مفردا ، وخالف في ذلك ابن حزم فأبطل الحج مفردا وقال منسوخ انظر المحلى (5/101)
والراجح قول الأكثرية والدليل : أولا : {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] فإنه يشمل بعمومه نسك الإفراد
ثانيا : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، «وَأَهَلَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَجِّ»، فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فَحَلَّ، وَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ أَوْ جَمَعَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، فَلَمْ يَحِلُّوا، حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ رواه البخاري (1562) ومسلم (1211) وفي رواية عند مسلم (1211) عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «مِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ مُفْرَدًا، وَمِنَّا مَنْ قَرَنَ، وَمِنَّا مَنْ تَمَتَّعَ»
 قال ابن عبدالبر : وفي حديث عائشة مِنَ الْفِقْهِ أَنَّ التَّمَتُّعَ جَائِزٌ وَأَنَّ الْإِفْرَادَ جَائِزٌ وَأَنَّ الْقِرَانَ جَائِزٌ وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَضِيَ كُلًّا وَلَمْ يُنْكِرْهُ فِي حَجَّتِهِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ بَلْ أَجَازَهُ لَهُمْ وَرَضِيَهُ انظر التمهيد (8/205)
ثالثا : عن أبي هريرة عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُهِلَّنَّ ابْنُ مَرْيَمَ بِفَجِّ الرَّوْحَاءِ، حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا، أَوْ لَيَثْنِيَنَّهُمَا» رواه مسلم (1252) فقوله حاجا دليل على الإفراد 0
ومعلوم أن عيسى عليه السلام ينزل في آخر الزمان متبعا لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، فهذا يدل على أن الإفراد بالحج شريعة قائمة لم تنسخ 0
والمفرد ليس عليه هدي والدليل قول الله تعالى : {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]
قال ابن باز في مجموع فتاوى (18/23) ليس على المفرد هدي سواء كان حجه فرضا أو نفلا، وإن أهدى فهو أفضل اهـ
2 - القران: وهو أن يهلَّ (ينوي) بالحج والعمرة معًا قائلاً: لبيك حجًّا وعمرة فيأتي بهما في نسك واحد، أو أن يدخل الحج على العمرة قبل الطواف.
اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي طَوَاف الْقَارِن وَالْمُتَمَتِّع عَلَى ثَلَاثَة مَذَاهِب ؟
القول الأول : أَنَّ عَلَى كُلّ مِنْهُمَا طَوَافَيْنِ وَسَعْيَيْنِ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيّ وبن مَسْعُود وَهُوَ قَوْل سُفْيَان الثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَة وَأَهْل الْكُوفَة وَالْأَوْزَاعِيِّ وَإِحْدَى الرِّوَايَات عَنْ الْإِمَام أَحْمَد – قلت : لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على هذا القول 0 قال ابن القيم : وقد روى عن النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ أَنَّهُ طَافَ طَوَافَيْنِ وَسَعَى سَعْيَيْنِ مِنْ رواية علي وبن مَسْعُود وَعَبْد اللَّه بْن عُمَر وَعِمْرَان بْن حُصَيْنٍ وَلَا يَثْبُت شَيْء مِنْهَا انظر عون المعبود وحاشية ابن القيم (5/243)
القول الثاني : أَنَّ عَلَيْهِمَا كِلَيْهِمَا طَوَافًا وَاحِدًا وَسَعْيًا وَاحِدًا نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَام أَحْمَد فِي رِوَايَة اِبْنه عَبْد اللَّه - وهو اختيار ابن تيمية وابن القيم
القول الثَّالِث : أَنَّ عَلَى الْمُتَمَتِّع طَوَافَيْنِ وَسَعْيَيْنِ وَعَلَى الْقَارِن سَعْي وَاحِد وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوف عَنْ عَطَاء وَطَاوُسٍ وَالْحَسَن
وَهُوَ مَذْهَب مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَظَاهِر مَذْهَب أَحْمَد
انظر هذه الأقوال عند عون المعبود وحاشية ابن القيم (5/243)
قلت القول الثالث : هو الراجح وهو أَنَّ عَلَى الْمُتَمَتِّع طَوَافَيْنِ وَسَعْيَيْنِ والدليل : 1- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مُتْعَةِ الحَجِّ، فَقَالَ: أَهَلَّ المُهَاجِرُونَ، وَالأَنْصَارُ، وَأَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ، وَأَهْلَلْنَا، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اجْعَلُوا إِهْلاَلَكُمْ بِالحَجِّ عُمْرَةً، إِلَّا مَنْ قَلَّدَ الهَدْيَ» فَطُفْنَا بِالْبَيْتِ، وَبِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ، وَأَتَيْنَا النِّسَاءَ، وَلَبِسْنَا الثِّيَابَ، وَقَالَ: «مَنْ قَلَّدَ الهَدْيَ، فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ لَهُ حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ» ثُمَّ أَمَرَنَا عَشِيَّةَ التَّرْوِيَةِ أَنْ نُهِلَّ بِالحَجِّ، فَإِذَا فَرَغْنَا مِنَ المَنَاسِكِ، جِئْنَا فَطُفْنَا بِالْبَيْتِ، وَبِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ، فَقَدْ تَمَّ حَجُّنَا وَعَلَيْنَا الهَدْيُ رواه البخاري معلقا (2/ 144) ووصله البيهقي في الكبرى (8889) وصححه الألباني في حجة النبي (87)
2- عن عائشة رضي الله عنها قالت: «...فَطَافَ، الَّذِينَ أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ، بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ حَلُّوا، ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا آخَرَ، بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى لِحَجِّهِمْ، وَأَمَّا الَّذِينَ كَانُوا جَمَعُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا رواه البخاري (1638) ومسلم (1211) وأما القارن فعليه طواف واحد وسعي واحد والدليل : 1- عن جَابِر بْن عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، يَقُولُ: «لَمْ يَطُفِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَصْحَابُهُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إِلَّا طَوَافًا وَاحِدًا طَوَافَهُ الْأَوَّلَ رواه مسلم (1279)
2- عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ قَرَنَ بَيْنَ حَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ، أَجْزَأَهُ لَهُمَا طَوَافٌ وَاحِدٌ رواه أحمد (5350) وصححه الألباني
- ذهب أكثر أهل العلم وجمهور الصحابة والتابعين إلى وجوب الدم على القارن وخالفهم في ذلك ابن حزم قال : لا يجب الدم على القارن ورأي الأكثرية ارجح قال ابن عبد البر في التمهيد (15/229) فَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ اخْتَلَفُوا فِيمَا عَلَى الْقَارِنِ مِنَ الْهَدْيِ وَالصِّيَامِ فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ الْقَارِنَ وَالْمُتَمَتِّعَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هَدْيٌ بَدَنَةٌ أَوْ بَقَرَةٌ وَكَانَ يَقُولُ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ بَدَنَةٌ أَوْ بَقَرَةٌ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ شَاةٌ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَجَمَاعَةُ الْفُقَهَاءِ وَكَانَ مَالِكٌ يَقُولُ فِي الْقَارِنِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ هُوَ وَالْمُتَمَتِّعُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ قَالَ الشَّافِعِيُّ يُجْزِئُ الْقَارِنَ شَاةٌ قِيَاسًا عَلَى الْمُتَمَتِّعِ قَالَ وَهُوَ أَخَفُّ شَأْنًا مِنَ الْمُتَمَتِّعِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ ومحمد تجزيه شاة والبقرة أفضل ولا يتجزئ عِنْدَهُمْ إِلَّا الدَّمُ عَنِ الْمُعْسِرِ وَغَيْرِهِ وَلَا مَدْخَلَ عِنْدَهُمْ لِلصِّيَامِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قِيَاسًا على من جاوز الميقات غير محرم أَوْ تَرَكَ رَمْيَ الْجِمَارِ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُهَا قَالَ أَبُو عُمَرَ هَذَا بَعِيدٌ مِنَ الْقِيَاسِ وَالْقِرَانُ بِالتَّمَتُّعِ أَشْبَهُ وَأَوْلَى أَنْ يُقَاسَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ فِي الْمُتَمَتِّعِ الصِّيَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا وَالْقَارِنِ مِثْلَهُ وَلَهُ حُكْمُهُ قِيَاسًا وَنَظَرًا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ اهـ وقال ابن حجر في فتح الباري (4/7)وَفِيهِ أَنَّ الْقَارِنَ يُهْدِي وشذ بن حَزْمٍ فَقَالَ لَا هَدْيَ عَلَى الْقَارِن اهـ
3 – التمتع : وصفته أن يهل بالعمرة في أشهر الحج ( لبيك اللهم بعمرة ) على أن يحج في نفس العام ، فإذا انتهى من أداء العمرة تحلل فحلق شعره أو قصره ، ولبس ثيابه ، وأبيح له كل شيء كان محظورا عليه بسبب الإحرام ؛ فإذا كان يوم التروية ( وهو يوم الثامن من ذي الحجة ) أهل بالحج 0
وعلى هذا فلو أحرم في رمضان من الميقات بالعمرة ، وأتمها في شوال لا يكون متمتعا ، لأن الشرط أن يحرم بالعمرة من الميقات في أشهر ( أشهر الحج ) وكذلك لو أحرم في أشهر الحج بعمرة في عام ، ثم حج في عام آخر ، لا يكون متمتعا انظر تمام المنة لشيخنا عادل العزازي (2/340)
على المتمتع هدي وأقله شاة كما سيأتي قال ابن كثير في تفسيره (1/399) وَقَوْلُهُ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ أي فإذا تَمَكَّنْتُمْ مِنْ أَدَاءِ الْمَنَاسِكِ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُتَمَتِّعًا بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، وَهُوَ يَشْمَلُ مَنْ أَحْرَمَ بِهِمَا، أَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ أَوَّلًا، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، وَهَذَا هُوَ التَّمَتُّعُ الْخَاصُّ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ 000فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ أَيْ فَلْيَذْبَحْ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنَ الْهَدْيِ، وَأَقَلُّهُ شَاةٌ، وَلَهُ أَنْ يَذْبَحَ الْبَقَرَ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَبَحَ عَنْ نِسَائِهِ الْبَقَرَ اهـ
فإذا لم يجد الهدي صام ثلاثة أيام في الحج وسبع إذا رجع إلى أهله ويجوز أن يصوم الأيام الثلاثة في أيام التشريق ، فعن عَائِشَةَ، ، وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، قَالاَ: «لَمْ يُرَخَّصْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يُصَمْنَ، إِلَّا لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الهَدْيَ رواه البخاري (1997) وهذا مذهب مالك وأحمد في رواية
وأما السبعة الأيام الأخرى فاختلف العلماء أين يصومها فمنهم من يرى صيامها إذا رجع إلى وطنه ، وهو قول الجمهور ومنهم من يرى بدء صيامها إذا رجع إلى رحله وقول الجمهور هو الراجح والدليل : عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : عن النبي صلى الله عليه وسلم : فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا، فَلْيَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فِي الحَجِّ وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ» رواه البخاري (1691) ومسلم (1227) وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا،في قوله تعالى {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الحَجِّ، وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196]: إِلَى أَمْصَارِكُم رواه البخاري معلقا (2/144) وقال ابن حجر في تلخيص الحبير (2/448) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ
قال ابن باز رحمه الله : إذا كان أهل بالعمرة وفرغ منها وأهل بالحج فعليه دم وهو سبع بدنة أو سبع بقرة أو رأس من الغنم، ثني من المعز أو جذع من الضأن، فإذا عجز عن هذا وجب عليه أن يصوم عشرة أيام ثلاثة في الحج والأفضل أن تكون قبل عرفة، فإن لم يصمها قبل عرفة صامها أيام التشريق في الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، فإن لم يتيسر ـــ عن ذلك فإنه يصومها مع السبعة في بلده، يصوم العشرة كاملة في بلده، كما قال الله جل وعلا في كتابه العظيم: فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم، تلك عشرة كاملة، ذلك لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، يعني من كان من أهل مكة ومن حولها فهذا لا شيء عليه، وإنما هذا على الذي يقدم من خارج مكة فهذا عليه من الهدي إذا أحرم بالحج والعمرة جميعاً أو أحرم بالعمرة ثم فرغ منها ثم أهل بالحج في أشهر الحج فهذا عليه الهدي الذي عرفت وهو سبع بدنة قد بلغ خمس سنين فأكثر وهي الثنية أو سبع بقرة قد تم لها سنتان وهي الثنية أو رأس من الغنم من المعز الثني ومن الضأن الجذع بلغ ستة أشهر فأكثر، فإن عجز عن ذلك ولم يتيسر له الهدي وجب عليه أن يصوم عشرة أيام منها ثلاثة يصومها في الحج قبل عرفات بعد حله من العمرة يصومها فإن لم يتيسر صومها صامها أيام التشريق فإن لم يتيسر ذلك صامها مع السبعة في بلاده وليس عليه شيء.اهـ

(هل يصح ذبح هدي التمتع في يوم التروية؟)

اختلف الفقهاء في وقت ذبح الهدي للمتمتع والقارن ، فذهب الجمهور إلى أنه يبدأ من يوم النحر ولا يصح قبله .
وذهب الشافعية إلى جواز ذبحه بعد الإحرام بالحج ، وكذلك بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج ، على الأصح
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله ـ وهو يذكر شروط الهدي ـ
الرابع: أن يكون في زمن الذبح، وفي هذا خلاف بين العلماء نذكره فيما يلي:
القول الأول: أنه لا يذبح دم المتعة إلا في الوقت الذي تذبح فيه الأضاحي، وهو يوم العيد، وثلاثة أيام بعد العيد.
القول الثاني: يجوز تقديم الذبح بعد الإحرام بالعمرة، فيذبح الهدي ولو قبل الخروج إلى منى للحج؛ لأن الصيام لمن
لم يجد الهدي يجوز أن يكون قبل الخروج إلى الحج مع أنه بدل، فإذا جاز في البدل فالأصل من باب أولى، وهذا هو المشهور عند الشافعية.
والصحيح أنه يشترط الزمان، وأن هدي التمتع لا بد أن يكون في أيام الذبح يوم العيد، وثلاثة أيام بعده.
والدليل على هذا أنه لو جاز أن يقدم ذبح الهدي على يوم العيد، لفعله النبي صلّى الله عليه وسلّم ولكنه قال: « لاَ أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ » - رواه البخاري (1566) ومسلم (1229) - ، ولا نحر إلا يوم العيد اهـ
لو أديى العمرة في أشهر الحج ثم سافر وخرج من مكة على أنه سيؤدي الحج في نفس العام فهل يكون متمتعا ؟
فيه خلاف ، والذي رجحه ابن عثيمين أنه إن عاد إلى وطنه لا يصير متمتعا ، وإن سافر إلى بلد أخر فإنه على تمتعه وذهب ابن حزم إلى أنه يكون متمتعا أيا كان ، سواء سافر إلى بلده أم إلى غيرها ، وهو الراجح لعدم وجود دليل على هذا التفريق والله أعلم انظر تمام المنة لشيخنا عادل العزازي (2/343)
( أي الأنساك أفضل )
قلت : تنازع العلماء في ذلك على أربعة أقوال :
القول الأول : الْإِفْرَاد أَفْضَلُ وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ وَجَابِرٌ وَعَائِشَةُ وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُد والشافعي انظر المجموع (7/152) ودليلهم :
1 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ - قَالَ: «أَهْلَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَجِّ مُفْرَدًا رواه البخاري (1568) عن جابر ومسلم عن جابر (1216) وابن عمر (1231) واللفظ له
القول الثاني : وَقَالَ أبو حنيفة وسفيان الثوري واسحق بن راهويه والمزني وابن المنذر وابو اسحق الْمَرْوَزِيُّ الْقِرَانُ أَفْضَلُ انظر المجموع (7/152) ودليلهم : عن سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا» رواه البخاري (4354) ومسلم (1232)
القول الثالث : التَّمَتُّعُ أَفْضَلُ وهو مذهب أحمد بن حنبل وأحد قولي الشافعي وهو مذهب أهل الظاهر وابن القيم، وهو مروي عن ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وعائشة وجماعة من السلف انظر صحيح فقه السنة (2/185) ورجحه شيخنا مصطفى العدوي وهو الراجح 0
ودليلهم : 1-  عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، بِهَذَا الْحَدِيثِ، قَالَ: تَمَتَّعَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَمَتَّعْنَا مَعَهُ رواه البخاري (1572) ومسلم (1226) واللفظ له
2- عن أَبي جَمْرَةَ نَصْر بْن عِمْرَانَ الضُّبَعِيّ، قَالَ: «تَمَتَّعْتُ»، فَنَهَانِي نَاسٌ، فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَأَمَرَنِي، فَرَأَيْتُ فِي المَنَامِ كَأَنَّ رَجُلًا يَقُولُ لِي: حَجٌّ مَبْرُورٌ، وَعُمْرَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ، فَأَخْبَرْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: «سُنَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» رواه البخاري (1567) ومسلم (1242)
3- أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه لما طافوا بالبيت أن يحلوا ويجعلوها عمرة -كما تقدم- فنقلهم من الإفراد والقران إلى التمتع، ولا ينقلهم إلا إلى الأفضل.
4- عن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ حَجَّ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ سَاقَ البُدْنَ مَعَهُ، وَقَدْ أَهَلُّوا بِالحَجِّ مُفْرَدًا، فَقَالَ لَهُمْ: «أَحِلُّوا مِنْ إِحْرَامِكُمْ بِطَوَافِ البَيْتِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ، وَقَصِّرُوا، ثُمَّ أَقِيمُوا حَلاَلًا، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ فَأَهِلُّوا بِالحَجِّ، وَاجْعَلُوا الَّتِي قَدِمْتُمْ بِهَا مُتْعَةً»، فَقَالُوا: كَيْفَ نَجْعَلُهَا مُتْعَةً، وَقَدْ سَمَّيْنَا الحَجَّ؟ فَقَالَ: «افْعَلُوا مَا أَمَرْتُكُمْ، فَلَوْلاَ أَنِّي سُقْتُ الهَدْيَ لَفَعَلْتُ مِثْلَ الَّذِي أَمَرْتُكُمْ، وَلَكِنْ لاَ يَحِلُّ مِنِّي حَرَامٌ حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ» فَفَعَلُوا رواه البخاري (1568) ومسلم (1216)
5- أن التمتع منصوص عليه في كتاب الله تعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}.سورة البقرة: 196 دون سائر الأنساك!
6- أن قوله صلى الله عليه وسلم يقدم على فعله عند التعارض
القول الرابع : لا يجوز أن يقال في واحد من هذه الأنساك إنه أفضل من غيره ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أباحها كلها ، وهذا قول ابن عبد البر قال ابن عبد البر في الاستذكار (4/ 63) وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ وَهِيَ الْإِفْرَادُ وَالتَّمَتُّعُ وَالْقِرَانُ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَبَاحَهَا كُلَّهَا وَأَذِنَ فِيهَا وَرَضِيَهَا وَلَمْ يُخْبِرْ بِأَنَّ وَاحِدًا مِنْهَا أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ وَلَا أَمْكَنَ مِنْهَا الْعَمَلُ بِهَا كُلِّهَا فِي حِجَّتِهِ الَّتِي لَمْ يَحِجَّ غَيْرَهَا وَبِهَذَا نَقُولُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ اهـ
القول الخامس : التفصيل: وهواختيار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وخلاصة كلامه، رحمه الله
1-         أَنَّهُ إذَا أَفْرَدَ الْحَجَّ بِسَفْرَةِ وَالْعُمْرَةَ بِسَفْرَةِ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ الْخَاصِّ بِسَفْرَةِ وَاحِدَةٍ هو إذاكان قد اعتمر قبل أشهر الحج. قال : وَهَذَا هُوَ الْإِفْرَادُ الَّذِي فَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ. وَكَانَ عُمَرُ يَخْتَارُهُ لِلنَّاسِ وَكَذَلِكَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - انظر مجموع الفتاوى (26/85) 2- وَأَمَّا إذَا أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ النسكين (الحج والعمرة) بِسَفْرَةِ وَاحِدَةٍ وَقَدِمَ مَكَّةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَلَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ. فَالتَّمَتُّعُ أَفْضَلُ
3- وَأَمَّا إذَا أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ النسكين بِسَفْرَةِ وَاحِدَةٍ وَيَسُوقَ الْهَدْيَ فَالْقِرَانُ أَفْضَلُ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَرَنَ وَسَاقَ الْهَدْيَ.
ثم أيهما أفضل:: أَنْ يَسُوقَ الْهَدْيَ وَيَقْرِنَ أَوْ أَنْ يَتَمَتَّعَ بِلَا سَوْقِ هَدْيٍ وَيَحِلَّ مِنْ إحْرَامِهِ؟ . قال: هذا موضع اجتهاد، لتعارض ما اختاره الله تعالى لنبيه مع ما اختاره النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، ومال -رحمه الله- إلى الأول انظر مجموع الفتاوى (26/90)
قلت : القول الثالث هو الراجح قال السيوطي في مطالب أولي النهى (2/306) (وَيُخَيَّرُ مَرِيدُ إحْرَامٍ بَيْنَ) ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: (تَمَتُّعٍ، وَهُوَ أَفْضَلُ) نَصًّا، قَالَ: لِأَنَّهُ آخِرُ مَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ: كَانَ اخْتِيَارُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الدُّخُولَ بِعُمْرَةٍ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَصْحَابَهُ لَمَّا طَافُوا وَسَعَوْا أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً إلَّا مَنْ سَاقَ هَدْيًا وَثَبَتَ عَلَى إحْرَامِهِ، لَسَوْقِهِ الْهَدْيَ، وَتَأَسَّفَ بِقَوْلِهِ: لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت مَا سُقْت الْهَدْيَ، وَلَأَحْلَلْت مَعَكُمْ» وَلَا يَنْقُلُ أَصْحَابَهُ إلَّا إلَى الْأَفْضَلِ، وَلَا يَتَأَسَّفُ إلَّا عَلَيْهِ اهـ
( هل يجوز لحاضري المسجد الحرام التمتع والقران ؛ أم ليس لهم إلا الإفراد )
تنازع العلماء في ذلك على قولين ؟
القول الأول : جواز القران والتمتع لحاضري المسجد الحرام ، وليس عليه هدي وبه قال مالك والشافعي وأحمد وداود الظاهري انظر المجموع (7/165) واستدلوا عليه بجميع الأدلة على مشروعية حج التمتع والقران ومنها قوله تعالى : ( فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) البقرة/196 ، قالوا : ولم تفرق هذه الأدلة بين المكي وغير المكي  قال النووي في المجموع : وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ النُّسُكِ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمَكِّيِّ كَانَ قُرْبَةً وَطَاعَةً فِي حَقِّ الْمَكِّيِّ كَالْإِفْرَادِ
القول الثاني : قال أبو حنيفة : ليس لحاضري المسجد الحرام إلا الإفراد انظر المجموع لقَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] جَعَلَ التَّمَتُّعَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى الْخُصُوصِ؛وأجيب قال النووي في المجموع : (وَالْجَوَابُ) عَنْ الْآيَةِ أَنَّ مَعْنَاهَا فَمَنْ تَمَتَّعَ فَعَلَيْهِ الْهَدْيُ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ فَإِنْ كَانَ فَلَا دَمَ فَهَذَا ظَاهِرُ الْآيَةِ فَلَا يُعْدَلُ عَنْهُ (فَإِنْ قِيلَ) فَقَوْلُهُ تَعَالَى (ذلك لمن لم يكن أهله) ولم يقيل عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ (قُلْنَا) اللَّامُ بِمَعْنَى عَلَى كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) أَيْ فَعَلَيْهَا وقَوْله تَعَالَى (أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ) أَيْ عَلَيْهِمْ 00 (وَأَمَّا) قَوْلُهُمْ الْمُتَمَتِّعُ شُرِعَ لَهُ أَنْ لَا يَلُمَّ بِأَهْلِهِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ وَلَا تَأْثِيرَ لِلْإِلْمَامِ بِأَهْلِهِ فِي التَّمَتُّعِ وَلِهَذَا لَوْ تَمَتَّعَ غَرِيبٌ عَنْ أَهْلِهِ فَأَلَمَّ بِأَهْلِهِ يَصِحُّ تَمَتُّعُهُ وَكَذَا لَوْ تَمَتَّعَ مِنْ غَيْرِ إلْمَامٍ بِأَهْلِهِ فَتَمَتُّعُهُ عِنْدَهُمْ مَكْرُوهٌ اهـ
قال صاحب أضواء البيان (4/491) أَقْرَبُ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي لِلصَّوَابِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ لَهُمْ أَنْ يَتَمَتَّعُوا، وَيَقْرِنُوا وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ هَدْيٌ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ الْآيَةَ [2 \ 196] عَامٌّ بِلَفْظِهِ فِي جَمِيعِ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَغَيْرِهِمْ وَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ هَذَا الْعُمُومِ، إِلَّا بِمُخَصَّصٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَتَخْصِيصُهُ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَا يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ ; لِاحْتِمَالِ رُجُوعِ الْإِشَارَةِ إِلَى الْهَدْيِ وَالصَّوْمِ، لَا إِلَى التَّمَتُّعِ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ، وَأَنَّ الْمَكِّيَّ إِذَا أَرَادَ الْعُمْرَةَ خَرَجَ إِلَى الْحِلِّ فَأَحْرَمَ مِنْهُ اهـ
( من هم حاضري المسجد الحرام)
(وَحَاضِرُوا الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) أَهْلُ الْحَرَمِ، وَمَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ مَالِكٌ: أَهْلُ مَكَّةَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَهْلُ الْحَرَمِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ طَاوُسٍ. وَقَالَ مَكْحُولٌ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: مَنْ دُونَ الْمَوَاقِيتِ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعٌ شُرِعَ فِيهِ النُّسُكُ، فَأَشْبَهَ الْحَرَمَ وَلَنَا، أَنَّ حَاضِرَ الشَّيْءِ مَنْ دَنَا مِنْهُ، وَمَنْ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ قَرِيبٌ فِي حُكْمِ الْحَاضِرِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ إذَا قَصَدَهُ لَا يَتَرَخَّصُ رُخَصَ السَّفَرِ، فَيَكُونُ مِنْ حَاضِرِيهِ. وَتَحْدِيدُهُ بِالْمِيقَاتِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ بَعِيدًا، يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ السَّفَرِ الْبَعِيدِ إذَا قَصَدَهُ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى جَعْلِ الْبَعِيدِ مِنْ حَاضِرِيهِ، وَالْقَرِيبِ
مِنْ غَيْرِ حَاضِرِيهِ، فِي الْمَوَاقِيتِ قَرِيبًا وَبَعِيدًا. وَاعْتِبَارُنَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ حَدَّ الْحَاضِرَ بِدُونِ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، بِنَفْيِ أَحْكَامِ الْمُسَافِرِينَ عَنْهُ، فَالِاعْتِبَارُ بِهِ أَوْلَى مِنْ الِاعْتِبَارِ بِالنُّسُكِ؛ لِوُجُودِ لَفْظِ الْحُضُورِ فِي الْآيَةِ.
انظر المغني (3/414)
 سئل ابن عثيمين كما في مجموع فتاوى (22/70) (ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) سورة البقرة، الآية: 196 من هم حاضرو المسجد الحرام هل هم أهل مكة أم أهل الحرم؟ وما رأيكم فيمن قال: إن المكي لن يتمتع ولن يقرن بدون أهله؟
فأجاب فضيلته بقوله: الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين هذا الذي ذكره السائل هو جزء من آية ذكرها الله سبحانه وتعالى فيمن تمتع فقال: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) وقد اختلف العلماء رحمهم الله في المراد بحاضري المسجد الحرام.
فقيل: هم من كان داخل حدود الحرم، فمن كان خارج حدود الحرم فليسوا من حاضري المسجد الحرام.
وقيل: هم أهل المواقيت ومن دونهم.
وقيل: هم أهل مكة ومن بينه وبينها دون مسافة القصر.
والأقرب أن حاضري المسجد الحرام هم أهل الحرم.
فمن كان من حاضري المسجد الحرم فإنه إذا تمتع بالعمرة إلى الحج فليس عليه هدي مثل: لو سافر الرجل من أهل مكة إلى المدينة مثلاً في أشهر الحج ثم رجع من المدينة فأحرم من ذي الحليفة بالعمرة مع أنه قد نوى أن يحج هذا العام فإنه لا هدي عليه هنا؛ لأنه من حاضري المسجد الحرام، وكذلك أهل مكة يمكن أن يقرنوا ولكن لا هدي عليهم مثل: أن يكون أحد من أهل مكة في المدينة ثم يحرم من ذي الحليفة في أيام الحج بعمرة وحج قارناً بينهما فهذا قارن ولا هدي عليه أيضاً لأنه من حاضري المسجد الحرام اهـ


 ( محظورات الإحرام )
محظورات الإحرام: أي المحظورات بسبب الإحرام.
والمحظور: الممنوع، قال تعالى: {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: 20] ، أي: ممنوعاً انظر الشرح الممتع (7/114)
أولا : حلق الرأس
 ودليل كون حلق الشعر محظوراً في الإحرام، قوله تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] .
تنازع العلماء في إزالة غيره من الشعور كالعانة والإبط ونحوهما
 قال جمهور العلماء : نحن نقيس حلق بقية الشعر على شعر الرأس.
فإذا استدللنا بالآية فهو استدلال على حلق شعر الرأس باللفظ، وعلى بقية الشعر بالقياس.
وقال ابن حزم، والظاهرية: لا نسلم القياس، والله ـ عزّ وجل ـ يقول: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] ، ولم ينهنا إلا عن حلق شعر الرأس، فلماذا نضيق على عباد الله، ونقول: كل الشعور لا تحلق؟ قال ابن عثيمين : لو أن الإنسان تجنب الأخذ من شعوره كشاربه، وإبطه، وعانته احتياطاً لكان هذا جيداً، لكن أن نلزمه ونؤثمه إذا أخذ مع عدم وجود الدليل الرافع للإباحة، فهذا فيه نظر.
انظر الشرح الممتع (7/ 117)
قال ابن قدامة في المغني (3/296) (وَلَا يَقْطَعُ شَعْرًا مِنْ رَأْسِهِ، وَلَا جَسَدِهِ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ أَخْذِ شَعْرِهِ، إلَّا مِنْ عُذْرٍ. وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] . وَرَوَى كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّهُ قَالَ: «لَعَلَّك يُؤْذِيك هَوَامُّ رَأْسِك؟ قَالَ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: احْلِقْ رَأْسَك، وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، أَوْ اُنْسُكْ شَاةً» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَلْقَ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مُحَرَّمًا، وَشَعْرُ الرَّأْسِ وَالْجَسَدِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ.
(2359) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ، مِنْ مَرَضٍ، أَوْ وَقَعَ فِي رَأْسِهِ قَمْلٌ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَتَضَرَّرُ بِإِبْقَاءِ الشَّعْرِ، فَلَهُ إزَالَتُهُ، لِلْآيَةِ وَالْخَبَرِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} [البقرة: 196] . أَيْ بِرَأْسِهِ قُرُوحٌ، {أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} [البقرة: 196] . أَيْ قَمْلٌ. ثُمَّ يَنْظُرُ؛ فَإِنْ كَانَ الضَّرَرُ اللَّاحِقُ بِهِ مِنْ نَفْسِ الشَّعْرِ، مِثْلَ أَنْ يَنْبُتَ فِي عَيْنِهِ، أَوْ طَالَ حَاجِبَاهُ فَغَطَّيَا عَيْنَيْهِ، فَلَهُ قَلْعُ مَا فِي الْعَيْنِ، وَقَطْعُ مَا اسْتَرْسَلَ عَلَى عَيْنَيْهِ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الشَّعْرَ آذَاهُ، فَكَانَ لَهُ دَفْعُ أَذِيَّتِهِ بِغَيْرِ فِدْيَةٍ، كَالصَّيْدِ إذَا صَالَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْأَذَى مِنْ غَيْرِ الشَّعْرِ، لَكِنَّ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إزَالَةِ الْأَذَى إلَّا بِإِزَالَةِ الشَّعْرِ، كَالْقَمْلِ وَالْقُرُوحِ بِرَأْسِهِ، أَوْ صُدَاعٍ بِرَأْسِهِ، أَوْ شِدَّةِ الْحَرِّ عَلَيْهِ لِكَثْرَةِ شَعْرِهِ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّهُ قَطَعَ الشَّعْرَ لِإِزَالَةِ ضَرَرِ غَيْرِهِ، فَأَشْبَهَ أَكْلَ الصَّيْدِ لِلْمَخْمَصَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَالْقَمْلُ مِنْ ضَرَرِ الشَّعْرِ، وَالْحَرُّ سَبَبُهُ كَثْرَةُ الشَّعْرِ. قُلْنَا: لَيْسَ الْقَمْلُ مِنْ الشَّعْرِ، وَإِنَّمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْمُقَامِ فِي الرَّأْسِ إلَّا بِهِ، فَهُوَ مَحَلٌّ لَهُ، لَا سَبَبٌ فِيهِ. وَكَذَلِكَ الْحَرُّ مِنْ الزَّمَانِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الشَّعْرَ يُوجَدُ فِي زَمَنِ الْبَرْدِ، فَلَا يَتَأَذَّى بِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ اهـ
ثانيا : تقليم الأظفار ؛
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ أَخْذِ أَظْفَارِهِ، وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ بِأَخْذِهَا فِي قَوْلِ أَكْثَرِهِمْ. وَهُوَ قَوْلُ حَمَّادٍ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ وَعَنْهُ: لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ فِيهِ بِفِدْيَةٍ انظر المغني (3/433) قال ابن عثيمين في الشرح الممتع (7/117) وتقليم الأظافر لم يرد فيه نص، لا قرآني ولا نبوي، لكنهم قاسوه على حلق الشعر بجامع الترفه، وإذا كان داود ينازع في حلق بقية الشعر الذي بالجسم في إلحاقها بالرأس، فهنا من باب أولى، ولهذا ذكر في الفروع أنه يتوجه احتمال ألا يكون من المحظورات، بناءً على القول بأن بقية الشعر ليس من المحظورات.
لكن نقل بعض العلماء الإجماع على أنه من المحظورات، فإن صح هذا الإجماع، فلا عذر في مخالفته، بل ليتبع، وإن لم يصح فإنه يبحث في تقليم الأظافر كما بحثنا في حلق بقية الشعر اهـ
وقد خالف في هذا داود الظاهري قال النووي : قَالَ دَاوُد يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ قَلْمُ أَظْفَارِهِ كُلِّهَا وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ
* هَكَذَا نَقَلَ الْعَبْدَرِيُّ عَنْهُ وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَحْرِيمِ قَلْمِ الظُّفْرِ فِي الْإِحْرَامِ فَلَعَلَّهُمْ لَمْ يَعْتَدُّوا بِدَاوُد وَفِي الِاعْتِدَادِ بِهِ فِي الْإِجْمَاعِ خِلَافٌ سَبَقَ مَرَّاتٍ اهـ قال ابن قدامة في المغني : وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ اعْتِبَارُهُ فِي الْإِجْمَاعِ اهـ قلت: وخالف في هذا أيضًا ابن حزم في «المحلى» (7/ 246) فأجاز قص الأظفار
قلت : الصحيح أن تقليم الأظفار من محظورات الأحرام والدليل : قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29]قَالَ صَاحِبُ «الدُّرِّ الْمَنْثُورِ فِي التَّفْسِيرِ بِالْمَأْثُورِ» : وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ قَالَ: «يَعْنِي بِالتَّفَثِ: وَضْعَ إِحْرَامِهِمْ مِنْ حَلْقِ الرَّأْسِ، وَلُبْسِ الثِّيَابِ، وَقَصِّ الْأَظْفَارِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ» قلت وهذا سنده ضعيف ولكن يتقوى بما رَوَى عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ، فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29] قَالَ: " التَّفَثُ: حَلَقُ الرَّأْسِ، وَأَخْذٌ مِنَ الشَّارِبَيْنِ، وَنَتْفُ الْإِبْطِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَقَصُّ الْأَظْفَارِ، وَالْأَخْذُ مِنَ الْعَارِضَيْنِ، وَرَمْي الْجِمَارِ، وَالْمَوْقِفُ بِعَرَفَةَ , وَالْمُزْدَلِفَةِ " رواه الطبري في تفسيره (16/ 526)
فائدة: إذا انكسر ظفره، فله إزالته، ولا شيء عليه للإجماع على ذلك
قال ابن المنذر في الإجماع (52) وأجمعوا على أن له أن يُزِيل عن نفسه ما كان مُنكسرًا منه اهـ
( ثالثا : تغطية الرأس )
تغطية الرأس بملاصق كالعمامة والغترة والطاقية وغيرها من محظورات الإحرام قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ تَخْمِيرِ رَأْسِهِ.انظر المغني (3/299) وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ «نَهْيُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ لُبْسِ الْعَمَائِمِ وَالْبَرَانِسِ» رواه البخاري (5805) . وَقَوْلُهُ فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَتْهُ رَاحِلَتُهُ: وَلاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ مُلَبِّيًا» رواه البخاري (1266) ومسلم  (1206)  عَلَّلَ مَنْعَ تَخْمِيرِ رَأْسِهِ بِبَقَائِهِ عَلَى إحْرَامِهِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ انظر المغني (3/299) أما غير الملاصق كالخيمة والشمسية وسقف السيارة فلا بأس به وقد تنازع العلماء في ذلك على قولين ؛القول الأول : قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ لَا يَجُوزُ وَإِنْ فَعَلَ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أنه لافدية انظر شرح مسلم (9/46)
ودليلهم : عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ , عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ أَضْحَى يَوْمًا مُلَبِّيًا حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ غَرَبَتْ بِذُنُوبِهِ , فَعَادَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ رواه ابن ماجه (2925) والبيهقي في الكبرى (9022) واللفظ له وضعفه الألباني
2- عن نَافِع , قَالَ: أَبْصَرَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ رَجُلًا عَلَى بَعِيرِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ قَدِ اسْتَظَلَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّمْسِ , فَقَالَ لَهُ: اضْحَ لِمَنْ أَحْرَمْتَ لَهُ رواه البيهقي في الكبرى (9192) وصححه الألباني في الإرواء
القول الثاني : يجوز ذلك وهو مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ انظر شرح مسلم (9/46) وهو الراجح والدليل : عَنْ أُمِّ الْحُصَيْنِ،قَالَتْ: «حَجَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ، فَرَأَيْتُ أُسَامَةَ وَبِلَالًا، وَأَحَدُهُمَا آخِذٌ بِخِطَامِ نَاقَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْآخَرُ رَافِعٌ ثَوْبَهُ يَسْتُرُهُ مِنَ الْحَرِّ، حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ» رواه مسلم (1298)
قال النووي في شرح مسلم : (9/ 46)  وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فَضَعِيفٌ كَمَا ذَكَرْنَا مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ نَهْيٌ وكذا قول بن عُمَرَ لَيْسَ فِيهِ نَهْيٌ وَلَوْ كَانَ فَحَدِيثُ أُمِّ الْحُصَيْنِ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ اهـ
قال ابن عثيمين رحمه الله : تغطية الرجل رأسه، فلا يحل للرجل أن يغطي رأسه بملاصق وهو محرم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الرجل الذي وقصته ناقته فمات: (لا تخمروا رأسه) فلا يجوز للمحرم أن يغطي رأسه بملاصق حال الإحرام؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
فإذا قال قائل: هذا في الميت؟ فإننا نقول: لا فرق بين الميت والحي، لقوله صلى الله عليه وسلم: (فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) فدل هذا على أن من كان حاله التلبية يثبت له هذا الحكم.
وقولنا: أن يغطي رأسه بملاصق، هل يشترط أن يكون معتاداً أم لا؟ يعني: لو ضع منديلاً على رأسه هل يحرم أو لا يحرم؟ يحرم؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (لا تخمروا رأسه) فالفرق بين المعتاد كالطاقية والغترة والعمامة، وغير المعتاد كالمنديل مثلاً، فإن كان غير ملاصق فهو جائز، مثل الشمسية والخيمة ونحو ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن تغطية الرأس لا عن تظليل الرأس، والشيء البائن عن الرأس المبتعد عنه لا يقال: إنه غطى الرأس بل ظلل الرأس، ولهذا قالت أم الحصين: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ضحى يوم العيد راكباً على ناقته ومعه بلال وأسامة وأحدهما يظلله بثوب من الحر حتى رمى جمرة العقبة) فدل هذا على أن التضليل ليس تغطية، وإذا قال قائل: لو وضع الإنسان يده على رأسه، هل يحرم؟
الجواب لا.لأن هذا لا يعد ستراً في العادة ولا تغطية، فلو وضع إنسان يده على رأسه من شدة الحر مثلاً وهو محرم فلا بأس، ولو حمل عفشه على رأسه وهو محرم، فهل يجوز؟ نعم يجوز؛ لأن هذا لا يسمى ستراً في العادة ولا جرت العادة أن الإنسان إذا أراد أن يخمر رأسه ذهب يحمل المتاع، ولكن بعض أهل العلم قال: إن أراد بالحمل أي بحمل المتاع على رأسه الستر فإن ذلك حرام؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) ولكن الظاهر أن ذلك لا يضر مطلقاً؛ لأن هذا يسمى حملاً ولا يسمى ستراً انظر مجموع فتاوى (22/132)
  ( هل يجوز تغطية وجه المحرم الحي )
قلت : تنازع العلماء في ذلك على قولين ؛
القول الأول : تغطية الوجه للمحرم مباح، وهو مذهب الشافعية والحنابلة ، وبه قال جماعة من السلف, وابن حزم ، واختاره ابن عثيمين (17) انظر الموسوعة الفقهية (2/143) ودليلهم : وَلاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ مُلَبِّيًا» رواه البخاري (1266) ومسلم  (1206) وجه الدلالة: أن النص خص الرأس بالنهي عن التغطية، فمفهومه يقتضي جواز تغطية غيره، أما ما جاء من تغطية الوجه فهو شاذ ضعيف انظر الموسوعة الفقهية (2/143)
القول الثاني : تحريم تغطية وجه المحرم وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك انظر شرح مسلم (4/389) وأحمد في إحدى الروايتين عنه وهو الراجح والدليل :عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَجُلًا أَوْقَصَتْهُ رَاحِلَتُهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَمَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ وَلَا وَجْهَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» رواه مسلم (1206)
قال الألباني رحمه الله في إرواء الغليل (4/200) قال البيهقي : وذكر الوجه فيه غريب , ورواية الجماعة الذين لم يشكوا , وساقوا المتن أحسن سياقة أولى بأن تكون محفوظة.
ويرد عليه ما سبق من الطرق والمتابعات التي لا شك فيها أصلا , ولهذا
تعقبه ابن التركمان بقوله: قلت: قد صح النهي عن تغطيتهما , فجمعهما بعضهم , وأفرد بعضهم الرأس , وبعضهم الوجه , والكل صحيح , ولا وهم في شيء منه في متنه , وهذا أولى من تغليط مسلم.
يعني في إخراجه للرواية التي فيها ذكر الوجه , وهو كما قال , فإنه يبعد جدا أن يجتمع أولئك الثقات على ذكر هذه الزيادة في الحديث خطأ منهم جميعا , فهي زيادة محفوظة إن شاء الله تعالى.
00 وجملة القول: أن زيادة الوجه في الحديث ثابتة محفوظة عن سعيد بن جبير , من طرق عنه , فيجب على الشافعية أن يأخذوا بها كما أخذ بها الإمام أحمد في رواية عنه ذكرها المؤلف (ص 246) , كما يجب على الحنفية أن يأخذوا بالحديث ولا يتأولوه بالتأويل البعيدة توفيقا بينه وبين مذهب إمامهم.
رابعا : لبس المخيط للرجل ، كالقميص والسراويل والعمامة ونحو ذلك:عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَاذَا تَأْمُرُنَا أَنْ نَلْبَسَ مِنَ الثِّيَابِ فِي الإِحْرَامِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ تَلْبَسُوا القَمِيصَ، وَلاَ السَّرَاوِيلاَتِ، وَلاَ العَمَائِمَ، وَلاَ البَرَانِسَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ لَيْسَتْ لَهُ نَعْلاَنِ، فَلْيَلْبَسِ الخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْ أَسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ، » رواه البخاري (1838)
قال النووي في شرح مسلم (8/73)
قَالَ الْعُلَمَاءُ هَذَا مِنْ بَدِيعِ الْكَلَامِ وَجَزِلِهِ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَمَّا يَلْبَسُهُ الْمُحْرِمُ فَقَالَ لَا يَلْبَسُ كَذَا وَكَذَا فَحَصَلَ فِي الْجَوَابِ أَنَّهُ لَا يَلْبَسُ الْمَذْكُورَاتِ وَيَلْبَسُ مَا سِوَى ذَلِكَ وَكَانَ التَّصْرِيحُ بِمَا لَا يَلْبَسُ أَوْلَى لِأَنَّهُ مُنْحَصِرٌ وَأَمَّا الْمَلْبُوسُ الْجَائِزُ لِلْمُحْرِمِ فَغَيْرُ مُنْحَصِرٍ فَضُبِطَ الْجَمِيعُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَلْبَسُ كَذَا وَكَذَا يَعْنِي وَيَلْبَسُ مَا سِوَاهُ وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ على أنه لا يجوز للمحرم لبس شئ مِنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ وَأَنَّهُ نَبَّهَ بِالْقَمِيصِ وَالسَّرَاوِيلِ عَلَى جَمِيعِ مَا فِي مَعْنَاهُمَا وَهُوَ مَا كَانَ مُحِيطًا أَوْ مَخِيطًا مَعْمُولًا عَلَى) قَدْرِ الْبَدَنِ أَوْ قَدْرِ عُضْوٍ مِنْهُ كَالْجَوْشَنِ وَالتُّبَّانِ وَالْقُفَّازِ وَغَيْرِهَا وَنَبَّهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَمَائِمِ وَالْبَرَانِسِ عَلَى كُلِّ سَاتِرٍ لِلرَّأْسِ مَخِيطًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ حَتَّى الْعِصَابَةُ فَإِنَّهَا حَرَامٌ فَإِنِ احْتَاجَ إِلَيْهَا لِشَجَّةٍ أَوْ صُدَاعٍ أَوْ غَيْرِهِمَا شَدَّهَا وَلَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ وَنَبَّهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخِفَافِ عَلَى كُلِّ سَاتِرٍ لِلرِّجْلِ مِنْ مَدَاسٍ وَجُمْجُمٍ وَجَوْرَبٍ وَغَيْرِهَا وَهَذَا كُلُّهُ حُكْمُ الرِّجَالِ وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَيُبَاحُ لَهَا سَتْرُ جَمِيعِ بَدَنِهَا بِكُلِّ سَاتِرٍ مِنْ مَخِيطٍ وَغَيْرِهِ إِلَّا سَتْرَ وَجْهِهَا فَإِنَّهُ حَرَامٌ بِكُلِّ سَاتِرٍ وَفِي سَتْرِ يَدَيْهَا بِالْقُفَّازَيْنِ خِلَافٌ لِلْعُلَمَاءِ وَهُمَا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ أَصَحُّهُمَا تَحْرِيمُهُ اهـ
قال ابن عثيمين رحمه الله : وههنا شيئان:
ما معنى المخيط؟
الجواب: المخيط عند الفقهاء كل ما خيط على قياس عضو، أو على البدن كله، مثل: القميص، والسراويل، والجبة، والصدرية، وما أشبهها، وليس المراد بالمخيط ما فيه خياطة، بل إذا كان مما يلبس في الإحرام، فإنه يلبس ولو كان فيه خياطة الثاني: لا بد أن يلبس على عادة اللبس، فلو وضعه وضعاً فليس عليه شيء، أي: لو ارتدى بالقميص، فإن ذلك لا يضر؛ لأنه ليس لبساً له.
والدليل على هذا حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سئل ما يلبس المحرم» ؟ قال: «لا يلبس القميص، ولا السراويل، ولا البرانس، ولا العمائم، ولا الخفاف» ، فذكر خمسة أشياء لا تلبس مع أنه سئل عن الذي يلبس، فأجاب بما لا يلبس، ومعنى هذا أنه يلبس المحرم ما سوى هذه الخمسة، وإنما عدل عن ذكر ما يلبس إلى ذكر ما لا يلبس؛ لأن ما لا يلبس أقل مما يلبس. وقوله: «وإن لبس ذكر مخيطاً» عبّر بلبس المخيط، ولكن النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي أعطي جوامع الكلم لم يعبر بلبس المخيط مع أنه أعم مما عينه، وإنما ذكر أشياء معينة عينها بالعد، وكان ينبغي للمؤلف وغيره من المؤلفين، أن يذكروا ما ذكره النبي صلّى الله عليه وسلّم، كما ذكرنا فيما سبق أن المحافظة على لفظ النص حتى في سياق الأحكام أولى. ويذكر أن أول من عبَّر بلبس المخيط إبراهيم النخعي ـ رحمه الله ـ، وهو من فقهاء التابعين؛ لأنه في الفقه أعلم منه في الحديث، ولهذا يعتبر فقيهاً، فقال: «لا يلبس المخيط» ، ولما كانت هذه العبارة ليست واردة عن معصوم صار فيها إشكال:
أولاً: من حيث عمومها.
والثاني: من حيث مفهومها.
لأننا إذا أخذنا بعمومها حرمنا كل ما فيه خياطة؛ لأن المخيط اسم مفعول بمعنى مخيوط، ولأن هذه العبارة توهم أن ما جاز لبسه شرعاً في الإحرام إذا كان فيه خياطة فإنه يكون ممنوعاً، أي: لو أن الإنسان عليه رداء مرقع، أو رداء موصول وصلتين بعضهما ببعض، فهل هو مخيط أو لا؟. الجواب: هو لغة مخيطٌ خِيْطَ بعضه ببعض، وهذا ليس بحرام، بل هو جائز. فالتعبير النبوي أولى من هذا، لأن فيه عدًّا وليس حدًّا وليس فيه إيهام، فلنرجع إلى تفسير حديث الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ: قال: «لا يلبس القميص» ، القميص: ما خيط على هيئة البدن، وله أكمام، كثيابنا التي علينا الآن، فهذه لا يلبسها المحرم؛ لأنه لو لبسها لم يكن هناك شعيرة ظاهرة للنسك، ولاختلف الناس فيها، فهذا يلبس كذا، وهذا يلبس كذا، بخلاف ما إذا اتحدوا في اللباس.
قال: «ولا السراويل» اسم مفرد وليس جمعاً، وجمعه سراويلات.
وقيل: إنه اسم جمع، ومفرده سروال، لكن اللغة الفصيحة أن سراويل مفرد. قال ابن مالك في الألفية:ولسراويلَ بهذا الجمع ـ يعني صيغة منتهى الجموع ـ شبه اقتضى عموم المنع والسراويل: لباس مقطع على قدر معين من أعضاء الجسم هما الرِّجلان.
قال: «ولا البرانس» ، وهي ثياب واسعة لها غطاء يغطى به الرأس متصل بها.
قال: «ولا العمائم» ، وهي: لباس الرأس، فلا يلبس المحرم العمامة، ولم يقل لا يغطي رأسه؛ لأنه لم يسأل إلا عما يلبس، فذكر ما يلبس على الرأس وهي العمامة، وما يلبس على أسفل البدن وهو السراويل، وما يلبس على أعلى البدن وهو القميص.
قال: «ولا الخفاف» هي ما يلبس على الرجل من جلد، أو نحوه فلا يلبسها المحرم، إلا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم استثنى: «من لم يجد نعلين فليلبس الخفين، ومن لم يجد إزاراً فليلبس السراويل» ، وبهذا نسد العذر على من يقول إذا ركب في الطائرة إن ثياب الإحرام موجودة في الشنطة في جوف الطائرة، نقول: هذا ليس بعذر، اجعل الثوب إزاراً والسراويل رداءً، وإن كان ممن يلبس الغترة اجعل الغترة رداءً، أو اجعل القميص رداءً، والبس السراويل؛ لإنك لا تجد إزاراً.
قال: «ومن لم يجد نعلين فليلبس الخفين» ، وهل هذا عند الحاجة أو مطلقاً ـ بمعنى لو كان الإنسان كما هو حالنا اليوم راكباً في السيارة تصل به إلى المسجد الحرام لا يحتاج إلى المشي، فهل نقول: إنه في هذه الحال له أن يلبس الخفين إذا لم يجد النعلين؟ أو نقول: إن الرسول ـ عليه أفضل الصلاة والسلام ـ أجاز لبس الخفين عند عدم النعلين؛ لأن الإنسان يحتاج إلى المشي، وما حول مكة فيه أودية وجبال لا تخلو من الأشواك غالباً، ومن الأحجار التي تدمي الأصابع، فلهذا رخص له أن يلبس الخفين؟الجواب: الذي يظهر لي أنه لا يلبس الخفين إلا عند الحاجة، أما إذا لم يكن محتاجاً كما في وقتنا الحاضر، فلا يلبس.انظر الشرح الممتع (7/126)
سئلت اللجنة الدائمة (11/179) لماذا حرم الله على الحجاج لبس المخيط، وما الحكمة من ذلك؟
ج: أولا: فرض الله الحج على من استطاع إليه سبيلا من المكلفين، مرة في العمر، وجعله ركنا من أركان الإسلام، لما هو معلوم من الدين بالضرورة، فعلى المسلم أن يؤدي ما فرضه الله عليه؛ إرضاء لله وامتثالا لأمره، رجاء ثوابه وخوف عقابه، مع الثقة بأن الله تعالى حكيم في تشريعه وجميع أفعاله، رحيم بعباده، فلا يشرع لهم إلا ما فيه مصلحتهم وما يعود عليهم بالنفع العميم في الدنيا والآخرة، فإلى ربنا الملك الحكيم سبحانه التشريع، وعلى العبد الامتثال مع التسليم.
ثانيا: لمشروعية التجرد من المخيط في الحج والعمرة حكم كثيرة منها: تذكر أحوال الناس يوم البعث، فإنهم يبعثون يوم القيامة حفاة عراة ثم يكسون، وفي تذكرة أحوال الآخرة عظة وعبرة، ومنها: إخضاع النفس، وإشعارها بوجوب التواضع، وتطهيرها من درن الكبرياء، ومنها إشعار النفس بمبدأ التقارب والمساواة والتقشف، والبعد عن الترف الممقوت، ومواساة الفقراء والمساكين ... إلى غير ذلك من مقاصد الحج على الكيفية التي شرعها الله وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
قال ابن حزم في مراتب الإجماع (43) وَأَجْمعُوا أَن لِبَاس الْمخيط من الثِّيَاب كُله للْمَرْأَة حَلَال وَكَذَلِكَ تَغْطِيَة رَأسهَا اهـ
فائدة: هذا اللبس المُحرَّم على الرجل محمول على ما يعتاد في كل ملبوس، فلو التحف بقميص أو ارتدى أو اتزر بسراويل مما ليس يعتاد لبسه عليه فلا شيء فيه، لأنه حينئذ يكون من جنس الإزار والرداء انظر «المجموع» (7/ 270)، و «مجموع فتاوى شيخ الإسلام» (26/ 109)
 ( من لم يجد إلا السراويل والخفين )
من لم يجد الإزار والرداء، فوجد السراويل والخفين -واحتاج للمشي- فيجوز له أن يلبس ما يجده، لحديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: خَطَبَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَاتٍ، فَقَالَ: «مَنْ لَمْ يَجِدِ الإِزَارَ فَلْيَلْبَسِ السَّرَاوِيلَ، وَمَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الخُفَّيْنِ» فدلَّ على جواز لبس السراويل -إذا لم يجد إزارًا- كما هي ولا يلزمه أن يشقها فيتزر بها -كما يقول الأحناف- ولا شيء عليه، لا فدية ولا غيرها لأنها -أي الفدية- لو وجبت لبينَّها النبي صلى الله عليه وسلم لأنه وقت حاجة، وهذا مذهب الجمهور خلافًا للأحناف انظر صحيح فقه السنة (2/ 200)
(لَا يَجُوزُ لبس الْخُفَّيْن إِلَّا بَعْدَ قَطْعِهِمَا أسفل من الكعبين)
قال النووي في شرح مسلم (8/74) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَحَدٌ لَا يَجِدُ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ وَذَكَرَ مُسْلِمٌ بَعْدَ هَذَا مِنْ رِوَايَةِ بن عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَلَمْ يَذْكُرْ قَطْعَهُمَا وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هذين الْحَدِيثَيْنِ فَقَالَ أَحْمَدُ يَجُوزُ لُبْسُ الْخُفَّيْنِ بِحَالِهِمَا ولا يجب قطعهما لحديث بن عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَزْعُمُونَ نَسْخَ حَدِيثِ بن عُمَرَ الْمُصَرِّحِ بِقَطْعِهِمَا وَزَعَمُوا أَنَّ قَطْعَهُمَا إِضَاعَةُ مَالٍ وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ لَا يَجُوزُ لُبْسُهُمَا إِلَّا بَعْدَ قَطْعِهِمَا أسفل من الكعبين لحديث بن عمر – سبق تخريجه - قالوا وحديث بن عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ مُطْلَقَانِ فَيَجِبُ حَمْلُهُمَا عَلَى الْمَقْطُوعَيْنِ لحديث بن عُمَرَ فَإِنَّ الْمُطْلَقَ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَالزِّيَادَةُ مِنَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ وَقَوْلُهُمْ إِنَّهُ إِضَاعَةُ مَالٍ لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ الْإِضَاعَةَ إِنَّمَا تَكُونُ فِيمَا نُهِيَ عَنْهُ وَأَمَّا مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ فَلَيْسَ بِإِضَاعَةٍ بَلْ حَقٍّ يَجِبُ الْإِذْعَانُ لَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي لَابِسِ الْخُفَّيْنِ لِعَدَمِ النَّعْلَيْنِ هَلْ عَلَيْهِ فِدْيَةٌ أَمْ لا فقال مالك والشافعي ومن وافقهما لاشيء عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَتْ فِدْيَةٌ لَبَيَّنَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ كَمَا إِذَا احْتَاجَ إِلَى حَلْقِ الرَّأْسِ يَحْلِقُهُ وَيَفْدِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ اهـ
( هل تنتقب المحرمة ؟ وهل تلبس القفازين )
وردت زيادة عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « وَلاَ تَنْتَقِبِ المَرْأَةُ المُحْرِمَةُ، وَلاَ تَلْبَسِ القُفَّازَيْنِ» رواه البخاري (1838) وقد اختلف فيها: هل هي من قول النبي صلى الله عليه وسلم؟ أم هي من قول ابن عمر؟ ورجح المرفوع البخاري والترمذي والألباني ورجَّح الموقوف الحافظ ابن حجر قلت : الصحيح المرفوع لأن زيادة الثقة مقبولة كما في أصول الحديث قال الألباني في الإرواء (4/ 190) وأشار البخاري إلى صحة هذه الزيادة , وذكر اتفاق جماعة من الثقات عليها , خلافا للحافظ في " الفتح " فرجح أنها موقوفة على ابن عمر , والأرجح عندي الأول وهو الذي يشعر به قول الترمذي: حديث حسن صحيح اهـ
َقال ابن حجر : وَمَعْنَى قَوْلِهِ وَلَا تَنْتَقِبُ أَيْ لَا تَسْتُرُ وَجْهَهَا كَمَا تَقَدَّمَ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ فَمَنَعَهُ الْجُمْهُورُ وَأَجَازَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي مَنْعِهَا مِنْ سَتْرِ وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا بِمَا سِوَى النِّقَابِ وَالْقُفَّازَيْنِ ثم قال : وَالْقُفَّازُ مَا تَلْبَسُهُ الْمَرْأَةُ فِي يَدِهَا فَيُغَطِّي أَصَابِعَهَا وَكَفَّيْهَا عِنْدَ مُعَانَاةِ الشَّيْءِ كَغَزْلٍ وَنَحْوِهِ وَهُوَ لِلْيَدِ كَالْخُفِّ لِلرِّجْلِ وَالنِّقَابُ الْخِمَارُ الَّذِي يُشَدُّ عَلَى الْأَنْفِ أَوْ تَحْتَ الْمَحَاجِرِانظر فتح الباري (4/54) قلت الصحيح : قول الجمهور
مسألة : هل يحرم على المرأة المحرمة تغطية وجهها :
 لم يرد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه حرم على المحرمة تغطية وجهها، وإنما حرم عليها النقاب فقط؛لأنه لباس الوجه وفرق بين النقاب وبين تغطية الوجه، وعلى هذا فلو أن المرأة المحرمة غطت وجهها، لقلنا: هذا لا بأس به، ولكن الأفضل أن تكشفه ما لم يكن حولها رجال أجانب، فيجب عليها أن تستر وجهها عنهم.
عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: «كُنَّا نُغَطِّيَ وُجُوهَنَا مِنَ الرِّجَالِ، وَكُنَّا نَتَمَشَّطُ قَبْلَ ذَلِكَ فِي الْإِحْرَامِ» رواه الحاكم (1/454)وقال : الألباني في الإرواء (4/212) وقال – الحاكم - : " صحيح على شرط الشيخين ". ووافقه الذهبى , وهو كما قالا اهـ  عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ تُسْدِلُ الْمَرْأَةُ جِلْبَابَهَا مِنْ فَوق رَأسهَا على وَجههَا رواه سعيد بن منصور انظر قتح الباري (3/406) وصححه شيخنا مصطفى العدوي
قال ابن حزم في المحلى (5/78)
أَمَّا أَمْرُ الْمَرْأَةِ، فَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا نَهَاهَا عَنْ النِّقَابِ؛ وَلَا يُسَمَّى السَّدْلُ نِقَابًا فَإِنْ كَانَ " الْبُرْقُعُ " يُسَمَّى نِقَابًا، لَمْ يَحِلَّ لَهَا لِبَاسُهُ؛ وَأَمَّا اللِّثَامُ فَإِنَّهُ نِقَابٌ بِلَا شَكٍّ؛ فَلَا يَحِلُّ لَهَا.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119]
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ» .
وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: 1] فَصَحَّ أَنَّ مَا لَمْ يُفَصِّلْ لَنَا تَحْرِيمَهُ فَمُبَاحٌ، وَمَا لَمْ يَنْهَ عَنْهُ فَحَلَالٌ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ؛ اهـ
فائدة : عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ , عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ , عَنْ نَافِعٍ ,عَنِ ابْنِ عُمَرَ , أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَ:  «إِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا وَإِحْرَامُ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ» رواه الدارقطني (2761)
الراجح أنه حديث ضعيف مرفوعا ولكن هو من قول ابن عمر رضي الله عنه وهذا إسناد ضعيف فيه هشام بن حسان مدلس وضعه ابن حجر في المرتبة الثالثة وهي من أكثر من التدليس فلم يحتج الائمة من أحاديثهم الا بما صرحوا فيه بالسماع ومنهم من رد حديثهم مطلقا ومنهم من قبلهم كأبي الزبير المكي اهـ ورواه هشام مرةً مرفوعاً، وأخرى موقوفاً، فالصواب - والله أعلم - الوقف، وتابعه أيوب بن محمد رواه الدارقطني (2760) بلفظ نا أَيُّوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو الْجَمَلِ , عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ , عَنْ نَافِعٍ ,عَنِ ابْنِ عُمَرَ , أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:  «لَيْسَ عَلَى الْمَرْأَةِ إِحْرَامٌ إِلَّا فِي وَجْهِهَا»
  قال ابن حجر في تلخيص الحبير (2/519)وَفِي إسْنَادِهِ أَيُّوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو الْجَمَلِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: تَفَرَّدَ بِرَفْعِهِ، وَقَالَ الْعُقَيْلِيُّ: لَا يُتَابَعُ عَلَى رَفْعِهِ، إنَّمَا يُرْوَى مَوْقُوفًا، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ: الصَّوَابُ وَقْفُهُ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: قَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَجْهُولٍ، وَالصَّحِيحُ وَقْفُهُ اهـ قال الدارقطني في العلل (13/48)
فَقَالَ: يَرْوِيهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَاخْتُلِفَ عنه؛
فرواه أيوب بن محمد الجمل، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عمر مرفوعا. وخالفه ابن عيينة، وهشام بن حسان، وعلي بن مسهر، ومحمد بن بشر، وعبد الرحمن بن سليمان، وابن نمير، وإسحاق الأزرق، وغيرهم، رووه عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عمر، موقوفا، وهو الصواب. وأيوب هذا من أهل اليمن، ضعيف اهـ
 وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (26/112) وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا " وَإِنَّمَا هَذَا قَوْلُ بَعْضِ السَّلَفِ اهـ
( خامسا : الطيب )
لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر 000( وَلاَ تَلْبَسُوا شَيْئًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ، وَلاَ الوَرْسُ) رواه البخاري (1838) ومسلم (1177)
ولقوله صلى الله عليه وسلم في المحرم الذي وقصته ناقته (لاَ تُحَنِّطُوهُ، وَلاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ مُلَبِّيًا»
رواه البخاري (1266) ومسلم (1206)
قال ابن عثيمين رحمه الله : وليس كل ما كان زكي الرائحة يكون طيباً، فالطيب ما أعد للتطيب به عادة، وعلى هذا فالتفاح والنعناع وما أشبه ذلك مما له رائحة زكية تميل إليها النفس لا يكون طيباً، إنما الطيب ما يستعمل للتطيب به كدهن العود والمسك والريحان والورد وما أشبه ذلك، هذا لا يجوز للمحرم استعماله.
والدليل على ذلك: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تلبسوا ثوباً مسه الزعفران أو الورس» ، والزعفران طيب.
لكن قد يقول قائل: الزعفران أخص من كونه طيباً؛ لأنه طيبٌ ولون، ونحن نقول إن الطيب بأي نوع كان يحرم على المحرم.
وجوابه: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال في الذي وقصته ناقته في عرفة: «لا تحنطوه» ، وتحنيط الميت أطياب مجموعة تجعل في مواضع من جسمه، وهذا عام لكل طيب، وقال: «فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً» ، وهذا دليل على أن المحرم لا يجوز استعماله للطيب.
ويستدل بهذا الحديث على مسائل عديدة، وهو من آيات الله ـ عزّ وجل ـ أن تقع حادثة لواحد من الصحابة، تؤخذ منها أحكام عديدة، أحكام في الحياة، وأحكام في الموت، وهذا من بركته صلّى الله عليه وسلّم أن الله يبارك في علمه، وقد أخذ ابن القيم من هذا الحديث اثنتي عشرة مسألة، وفيه أكثر مما ذكر عند التأمل.
وفيه دليل على حكمته ـ عزّ وجل ـ وأن قدره الذي يكون مصيبة، قد يكون نعمة ومنحة من ناحية أخرى، فهذا الذي وقصته راحلته أصيب بمصيبة لكن حصل منها من الفوائد ما لا يعلمه إلا الله ـ عزّ وجل ـ. والحكمة من تحريم الطيب على المحرم، أن الطيب يعطي الإنسان نشوة، وربما يحرك شهوته ويلهب غريزته، ويحصل بذلك فتنة له، والله تعالى يقول: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] ، ثم إنه قد ينسيه ما هو فيه من العبادة فلذلك نهي عنه. والطيب هنا يشمل الطيب في رأسه، وفي لحيته، وفي صدره، وفي ظهره، وفي أي مكان من بدنه، وفي ثوبه أيضاً.
قوله: «أو ادهن بمطيَّب» أي: مسح على جلده بدهن فيه طيب، فإنه لا يجوز؛ لأن ذلك سوف يعلق به وتبقى رائحته.
هذا بشرط أن يكون هذا الذي ادهن به قد ظهر فيه رائحة الطيب.
بقي النظر إلى أن بعض الصابون له رائحة؟ هل هي طيب أم هي من الرائحة الزكية؟ الظاهر الثاني؛ ولهذا لا يعد الناس هذا الصابون طيباً، فلا تجد الرجل إذا أراد أن يتطيب يأتي بالصابون يمره على ثوبه، لكنها لما كانت تستعمل في الأيدي للتطهر بها من رائحة الطعام، جعلوا فيها هذه الرائحة الزكية، فالذي يظهر لي أن هذا الصابون الذي فيه رائحة طيبة لا يعد من الطيب المحرم.
قوله: «أو شم طيباً» ، أي: تقصَّد شم الطيب، فإنه يحرم عليه ذلك، ولكن هذه المسألة، وهي شم الطيب في تحريمها نظر؛ لأن الشم ليس استعمالاً.
ولهذا قال بعض العلماء: إنه لا يحرم الشم، لكن إن تلذذ به فإنه يتجنبه خوفاً من المحذور الذي يكون بالتطيب، أما شمه ليختبره مثلاً هل هو طيب جيد، أو وسط، أو رديء، فهذا لا بأس به.
وهذه المسألة لها ثلاث حالات:
الحال الأولى: أن يشمه بلا قصد.
الحال الثانية: أن يتقصد شمه، لكن لا للتلذذ به أو الترفه به، بل ليختبره، هل هو جيد أو رديء؟
الحال الثالثة: أن يقصد شمه للتلذذ به، فالقول بتحريم
الثالثة وجيه، وهذه فيها خلاف: فقال بعض العلماء: إن شم الطيب ليس حراماً، ولا شيء فيه؛ لأنه لم يستعمله، والنبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ولا تحنطوه» ، وقال: «لا تلبسوا ثوباً مسه زعفران ولا ورس» ، والشم لا يؤثر في الثوب ولا البدن.
وأما القول بتحريم الثانية فغير وجيه، بل الشم جائز، أما الأولى فلا تحرم، قولاً واحداً، ومن ذلك ما يحصل للإنسان إذا كان يطوف فإنه يشم رائحة الطيب الذي في الكعبة، وقد رأينا بعض الناس يصبون الطيب صباً على جدار الكعبة، ومثل هذا لا بد أن يفوح له رائحة، ولكن لا يؤثر على المحرم.
ونحن نرى أن الذين يضعون الطيب في الحجر الأسود قد أخطأوا؛ لأنهم سوف يحرمون الناس من استلام الحجر الأسود، أو يوقعونهم في محظور من محظورات الإحرام، وكلاهما عدوان على الطائفين.
فيقال لهم: إذا أبيتم إلا أن تطيبوا الكعبة، فلا تجعلوا الطيب في مشعر من مشاعر الطواف، اجعلوه في جوانب الكعبة، أما أن تجعلوه في مكان يحتاج المسلمون إلى مسحه وتقبيله، فهذا جناية عليهم؛ لأنهم إما أن يدعوا المسح مع القدرة عليه، وإما أن يقعوا في المحظور، فعلى طالب العلم أن ينبه هذا الذي احتسب بنيَّته، وأساء بفعله أنه قد أخطأ؛ لأن من قبَّلَ الحجر أو مسحه وأصابه طيب، وقيل له: اغسله، يكون فيه أذى شديد عليه، خصوصاً مع الزحام.
مسألة: القهوة التي فيها زعفران، هل يجوز للمحرم أن يشربها؟
الجواب: إذا بقيت الرائحة لا يشربها المحرم، وإذا لم تبق وإنما مجرد لون فلا بأس؛ لأنه ليس فيها طيب انظر الشرح الممتع (7/137)
قال النووي في المجموع (7/270) يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ اسْتِعْمَالُ الطِّيبِ وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ اهـ قلت : وهذا بعد الإحرام  فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: «كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِحْرَامِهِ حِينَ يُحْرِمُ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ» رواه البخاري (1539) ومسلم (1189) وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الطِّيبِ عِنْدَ إِرَادَةِ الْإِحْرَامِ وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِاسْتِدَامَتِهِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَإِنَّمَا يَحْرُمُ ابْتِدَاؤُهُ فِي الْإِحْرَامِ وَهَذَا مَذْهَبُنَا – الشافعي - وَبِهِ قَالَ خَلَائِقُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَجَمَاهِيرُ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ مِنْهُمْ سَعْدُ بْنُ أبي وقاص وبن عباس وبن الزُّبَيْرِ وَمُعَاوِيَةُ وَعَائشَةُ وَأُمُّ حَبِيبَةَ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَأَحْمَدُ وَدَاوُدُ وَغَيْرُهُمْ وَقَالَ آخَرُونَ بِمَنْعِهِ مِنْهُمُ الزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَحُكِيَ أَيْضًا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ انظر شرح مسلم (8/98) قال الصنعاني في سبل السلام (1/620) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّطَيُّبِ عِنْدَ إرَادَةِ فِعْلِ الْإِحْرَامِ وَجَوَازِ اسْتِدَامَتِهِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَأَنَّهُ لَا يَضُرُّ بَقَاءُ لَوْنِهِ وَرِيحِهِ وَإِنَّمَا يُحَرَّمُ ابْتِدَاؤُهُ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْأَئِمَّةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ إلَى خِلَافِهِ وَتَكَلَّفُوا لِهَذِهِ الرِّوَايَةِ وَنَحْوِهَا بِمَا لَا يَتِمُّ بِهِ مُدَّعَاهُمْ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: " إنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَطَيَّبَ ثُمَّ اغْتَسَلَ بَعْدَهُ فَذَهَبَ الطِّيبُ ".قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ بَعْدَ ذِكْرِهِ: الصَّوَابُ مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ مِنْ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الطِّيبُ لِلْإِحْرَامِ لِقَوْلِهِ: (لِإِحْرَامِهِ) وَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَتِمُّ ثُبُوتُ الْخُصُوصِيَّةِ إلَّا بِدَلِيلٍ عَلَيْهَا بَلْ الدَّلِيلُ قَائِمٌ عَلَى خِلَافِهَا وَهُوَ مَا ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ «كُنَّا نَنْضَحُ وُجُوهَنَا بِالْمِسْكِ الْمُطَيَّبِ قَبْلَ أَنْ نُحْرِمَ فَنَعْرَقَ وَيَسِيلُ عَلَى وُجُوهِنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يَنْهَانَا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد -  (1830) - وَأَحْمَدُ (24502) - بِلَفْظِ «كُنَّا نَخْرُجُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى مَكَّةَ فَنَنْضَحُ جِبَاهَنَا بِالْمِسْكِ الْمُطَيَّبِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ فَإِذَا عَرِقَتْ إحْدَانَا سَالَ عَلَى وَجْهِهَا فَيَرَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يَنْهَانَا» - صححه الألباني - .
وَلَا يُقَالُ: هَذَا خَاصٌّ بِالنِّسَاءِ؛ لِأَنَّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ فِي الطِّيبِ سَوَاءٌ بِالْإِجْمَاعِ فَالطِّيبُ يُحَرَّمُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ لَا قَبْلَهُ وَإِنْ دَامَ حَالُهُ فَإِنَّهُ كَالنِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ دَوَاعِيهِ وَالنِّكَاحُ إنَّمَا يُمْنَعُ الْمُحْرِمُ مِنْ ابْتِدَائِهِ لَا مِنْ اسْتِدَامَتِهِ فَكَذَلِكَ الطِّيبُ، وَلِأَنَّ الطِّيبَ مِنْ النَّظَافَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُقْصَدُ بِهِ دَفْعُ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ كَمَا يُقْصَدُ بِالنَّظَافَةِ إزَالَةُ مَا يَجْمَعُهُ الشَّعْرُ وَالظُّفْرُ مِنْ الْوَسَخِ وَلِذَا اُسْتُحِبَّ أَنْ يَأْخُذَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ مِنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ لِكَوْنِهِ مَمْنُوعًا مِنْهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَإِنْ بَقِيَ أَثَرُهُ بَعْدَهُ، وَأَمَّا حَدِيثُ مُسْلِمٍ فِي «الرَّجُلِ الَّذِي جَاءَ يَسْأَلُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَيْفَ يَصْنَعُ فِي عُمْرَتِهِ وَكَانَ الرَّجُلُ قَدْ أَحْرَمَ وَهُوَ مُتَضَمِّخٌ بِالطِّيبِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَرَى فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فِي جُبَّةٍ بَعْدَهَا تَضَمَّخَ بِالطِّيبِ؟ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:. أَمَّا الطِّيبُ الَّذِي بِك فَاغْسِلْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» - الْحَدِيثَ – رواه البخاري (4329) ومسلم (1180) -
فَقَدْ أُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ هَذَا السُّؤَالَ وَالْجَوَابَ كَانَا بِالْجِعْرَانَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَقَدْ حَجَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَنَةَ عَشْرٍ وَاسْتَدَامَ الطِّيبُ وَإِنَّمَا يُؤَخَّرُ الْآخِرُ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ وَقَوْلُهَا: (لِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ) الْمُرَادُ لِحِلِّهِ الْإِحْلَالَ الَّذِي يَحِلُّ بِهِ كُلُّ مَحْظُورٍ وَهُوَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ، وَقَدْ كَانَ حَلَّ بَعْضُ الْإِحْلَالِ وَهُوَ بِالرَّمْيِ الَّذِي يَحِلُّ بِهِ الطِّيبُ وَغَيْرُهُ وَلَا يُمْنَعُ بَعْدَهُ إلَّا مِنْ النِّسَاءِ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ قَدْ كَانَ فَعَلَ الْحَلْقَ وَالرَّمْيَ وَبَقِيَ الطَّوَافُ اهـ
 سادسا : ( عقد النكاح أو الخطبة )
قلت : تنازع العلماء في ذلك على قولين ؟
القول الأول : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْكُوفِيُّونَ يَصِحُّ نِكَاحُهُ انظر شرح مسلم (9/194) ودليلهم : عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ رواه البخاري (1837) ومسلم (1410)
القول الثاني : قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ لَا يَصِحُّ نِكَاحُ الْمُحْرِمِ انظر شرح مسلم (9/194) ودليلهم : 1- عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ، حَدَّثَتْنِي مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ، «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ»، قَالَ: «وَكَانَتْ خَالَتِي، وَخَالَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ رواه مسلم (1411)
2- عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: «تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ، وَبَنَى بِهَا وَهُوَ حَلَالٌ»، وَكُنْتُ أَنَا الرَّسُولَ فِيمَا بَيْنَهُمَا رواه الترمذي (841) حديث ضعيف ضعفه الألباني 0
3- عن عُثْمَان بْن عَفَّان قال : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ، وَلَا يُنْكَحُ، وَلَا يَخْطُبُ رواه مسلم (1409) وقد عارض هذا الحديث حديث عثمان وحديث يزيد حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ لكن أجاب عنه الجمهور بعدة أجوبة، من ذلك:
الجواب الأول : تأويل حديث بن عَبَّاسٍ عَلَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا فِي الْحَرَمِ وَهُوَ حَلَالٌ وَيُقَالُ لِمَنْ هُوَ فِي الْحَرَمِ مُحْرِمٌ وَإِنْ كَانَ حَلَالًا وَهِيَ لُغَةٌ شَائِعَةٌ مَعْرُوفَةٌ ومنه البيت المشهور ... قتلوا بن عَفَّانَ الْخَلِيفَةَ مُحْرِمًا ... ... أَيْ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ انظر شرح مسلم (9/194)
الجواب الثاني : قال ابن حزم : خَبَرُ يَزِيدَ عَنْ مَيْمُونَةَ هُوَ الْحَقُّ، وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهْمٌ مِنْهُ بِلَا شَكٍّ لِوُجُوهٍ بَيِّنَةٍ -: أَوَّلِهَا: أَنَّهَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَعْلَمُ بِنَفْسِهَا مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ لِاخْتِصَاصِهَا بِتِلْكَ الْقِصَّةِ دُونَهُ؛ هَذَا مَا لَا يَشُكُّ فِيهِ أَحَدٌ.
الجواب الثالث : أَنَّهَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كَانَتْ حِينَئِذٍ امْرَأَةٌ كَامِلَةٌ وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَوْمئِذٍ ابْنَ عَشْرَةِ أَعْوَامٍ وَأَشْهُرٍ فَبَيْنَ الضَّبْطَيْنِ فَرْقٌ لَا يَخْفَى انظر المحلى (5/215)
الجواب الرابع : وَلَوْ قُدِّرَ تَعَارُضُ الْقَوْلِ – حديث عثمان- وَالْفِعْلِ هَاهُنَا، لَوَجَبَ تَقْدِيمُ الْقَوْلِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ مُوَافِقٌ لِلْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَالْقَوْلَ نَاقِلٌ عَنْهَا، فَيَكُونُ رَافِعًا لِحُكْمِ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَاعِدَةِ الْأَحْكَامِ، وَلَوْ قُدِّمَ الْفِعْلُ، لَكَانَ رَافِعًا لِمُوجِبِ الْقَوْلِ، وَالْقَوْلُ رَافِعٌ لِمُوجِبِ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، فَيَلْزَمُ تَغْيِيرُ الْحُكْمِ مَرَّتَيْنِ، وَهُوَ خِلَافُ قَاعِدَةِ الْأَحْكَامِ انظر زاد المعاد (3/331)
قال ابن عثيمين في الشرح الممتع (7/151)
قوله: «ويحرم عقد نكاح» ، أي على الذكور والإناث، هذا هو المحظور السابع من محظورات الإحرام.
ودليله قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا ينكح المحرم، ولا ينكح، ولا يخطب».وسواء كان المحرم الولي، أو الزوج، أو الزوجة، فالحكم يتعلق بهؤلاء الثلاثة.
أما الشاهدان فلا تأثير لإحرامهما، لكن يكره أن يحضرا عقده إذا كانا محرمين، فإن عقد النكاح في حق المحرم منهم حرام، فالأقسام كما يلي:
الأول: عقد مُحل على محرمة، فالنكاح حرام.
الثاني: عقد مُحرِم على مُحلة، فالنكاح حرام.
الثالث: عقد ولي مُحرِم لمُحلٍّ ومُحلة، فالنكاح حرام.
فإن قال قائل: ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «تزوج ميمونة وهو محرم» ، روى ذلك عبد الله بن عباس ابن أخت ميمونة ـ رضي الله عنهم ـ وهو عالم بحالها.
فالجواب: على ذلك من وجهين:
الأول: سبيل الترجيح.
الثاني: سبيل الخصوصية.
أما الأول: وهو سبيل الترجيح، فإن الراجح أن النبي صلّى الله عليه وسلّم تزوج ميمونة وهو حلال لا حرام، والدليل على هذا أن ميمونة ـ رضي الله عنها ـ نفسها روت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم تزوجها وهو حلال ، وأن أبا رافع ـ رضي الله عنه ـ السفير بينهما ـ أي؛ الواسطة بينهما ـ أخبر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم تزوجها وهو حلال ، وعلى هذا فيرجح ذلك؛ لأن صاحب القصة، والمباشر للقصة أدرى بها من غيره.
فأما حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ فجوابه أن يقال: إن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ لم يعلم أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم تزوجها إلا بعد أن أحرم الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فظن أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم تزوجها وهو محرم بناءً على علمه، وهذا الوجه قوي وواضح ولا إشكال فيه.
وأما الثاني: وهو الخصوصية، فإن من خصائص الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يتزوج وهو محرم؛ لأنه أملك الناس لإربه، وغيره لو تزوج وهو محرم لدعته نفسه وشدة شهوته أن يتصل بامرأته، وربما جامعها، وله صلّى الله عليه وسلّم في النكاح خصائص متعددة.
وهل حمله على الخصوصية أمر غريب بحيث لا نوافق عليه، أو نوافق؟
الجواب: ليس أمراً غريباً.
ولكن إذا تعارض التخصيص، أو الترجيح فأيهما أولى؟
الجواب: الترجيح أولى؛ لأن الأصل عدم الخصوصية.
فإذاً يكون مسلك الترجيح أولى، وهو أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم تزوج ميمونة وهو حلال.
قوله: «ولا يصح» ، الضمير في قوله: «لا يصح» يعود على العقد، أي: لو عُقِدَ على امرأة محرمة لزوج حلال فالنكاح لا يصح، ولو عقد لزوج محرم على امرأة حلال فالنكاح لا يصح، ولو عقد لرجل محل على امرأة محلة، والولي محرم لم يصح النكاح.
لأن النهي وارد على عين العقد، وما ورد النهي على عينه فإنه لا يمكن تصحيحه، إذ لو قلنا بتصحيح ما ورد النهي على عينه لكان هذا من المحادة لله ولرسوله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ؛ لأن ما نهى الشارع عنه إنما يريد من الأمة عدمه، فلو أمضي كان مضادة لله ولرسوله.
مسائل: الأولى: قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «لا ينكح المحرم ولا يُنكح» . ألا يدل على أنه يحل عقد النكاح بعد التحلل الأول ـ كما هو الرواية الثانية عن أحمد واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ؛ لأن المحرم بعد التحلل الأول لا يطلق عليه اسم المحرم الكامل؟
هذه المسألة تأتينا إن شاء الله وهي قوله صلّى الله عليه وسلّم: «حل له كل شيء إلا النساء» ، فهل المراد النساء وما يتعلق بهن كالخطبة والعقد، أو المراد الاستمتاع بالنساء؟ فالمسألة فيها قولان، ولكننا عملياً نقول لا تعقد النكاح حتى تتحلل تحللاً كاملاً، ولو فرض أنه وقع العقد بعد التحلل الأول، فهذه ربما نقول بقول شيخ الإسلام ابن تيمية والذي هو رواية عن الإمام أحمد لعظمة المشقة.
وبعد التأمل رأينا أن القول بأن عقد النكاح بعد التحلل الأول حرام فيه نظر من حيث الدليل؛ لأن قول الرسول (إلا النساء) فيه احتمال قوي أن المراد الاستمتاع بهن بجماع أو غيره خاصة وأن من تحلل التحلل الأول لا يطلق عليه أنه محرم إحراماً كاملاً.
الثانية: الخطبة الصحيح أنها حرام؛ لأن النهي فيها واحد مع العقد، وعموم الحديث: «ولا يخطب» ، أنه لا يخطب تعريضاً ولا تصريحاً.
الثالثة: لو عقد النكاح في حال الإحرام، ثم بعد الإحلال دخل الرجل بزوجته، وأنجبت منه أولاداً فلا بد من عقد جديد، ويكون وطؤه الأول وطئاً بشبهة، وأولاده أولاداً شرعيين، أي: ينسبون إليه شرعاً، كما أنهم منسوبون إليه قدراً اهـ
( هل يجوز أن تزف المحرمة إلى زوجها )
نعم يجوز أن تزف المحرمة لزوجها إلا أنه لا يباشرها حتى يطوف طواف الإفاضة كما هو معلوم 0
قال النووي في المجموع (7/285)
قال الندنيجي وغيره وَيَجُوزُ أَنْ تُزَفَّ إلَيْهِ امْرَأَةٌ عَقَدَ عَلَيْهَا قَبْلَ الْإِحْرَامِ وَتُزَفُّ الْمُحْرِمَةُ انظر أحكام النساء (2/ 557)
( وللمحرم أن يراجع زوجته التي طلقها )
وذلك لأنه لم يرد نهي عن مراجعة المطلقة 0
قال النووي في المجموع ( 7/ 285)
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَاجِعَ الْمُحْرِمُ الْمُحْرِمَةَ وَالْمُحِلَّةَ سَوَاءٌ أَطَلَّقَهَا فِي الْإِحْرَامِ أَوْ قبله لما ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ اهـ وقال ابن حزم في المحلى (5/ 211) وَمُرَاجَعَةُ الْمَرْأَةِ [الْمُطَلَّقَةِ] فِي عِدَّتِهَا لَا يُسَمَّى نِكَاحًا؛ لِأَنَّهَا امْرَأَتُهُ، كَمَا كَانَتْ تَرِثُهُ وَيَرِثُهَا وَتَلْزَمُهُ نَفَقَتُهَا وَإِسْكَانُهَا، وَلَا صَدَاقَ فِي ذَلِكَ، وَلَا يُرَاعَى إذْنُهَا، وَلَا حُكْمَ لِلْوَلِيِّ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَهُوَ نِكَاحٌ لَا مُرَاجَعَةٌ، وَلَا يَكُونُ إلَّا بِرِضَاهُمَا وَبِصَدَاقٍ وَوَلِيٍّ اهـ
سابعا : (الجماع)
إذا جامع الرجل امرأته في الحج ماذا عليهما
قلت : تنازع العلماء في ذلك على قولين :
القول الأول : ذهب جمهور أهل العلم منهم الأئمة الأربعة وغيرهم أن الجماع في الحج يفسده انظر الفقه الميسر (2/97) ودليلهم أولا : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ) سورة البقرة (197) وقد صح عن ابن عباس وابن عمر وقتادة أن الرفث في الآية: الجماع انظر تفسير الطبري (4/ 125 - 136) بأسانيد صحيحة
2- عَنْ يَحْيَى، أَخْبَرَنِي يَزِيدُ بْنُ نُعَيْمٍ أَوْ زَيْدُ بْنُ نُعَيْمٍ - شَكَّ أَبُو تَوْبَةَ - أَنَّ، رَجُلًا، مِنْ جُذَامٍ جَامَعَ امْرَأَتَهُ وَهُمَا مُحْرِمَانِ، فَسَأَلَ الرَّجُلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: لَهُمَا: «اقْضِيَا نُسُكَكُمَا وَاهْدِيَا هَدْيًا » رواه أبو داود في المراسيل (140) المرسل لا حجة فيه
3- عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ فَسَأَلَهُ عَنْ مُحْرِمٍ وَقَعَ بِامْرَأَتِهِ، فَسَأَلَهُ، فَأَشَارَ لَهُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، فَلَمْ يَعْرِفْهُ الرَّجُلُ، قَالَ شُعَيْبٌ: فَذَهَبْتُ مَعَهُ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: «بَطَلَ حَجُّهُ»، قَالَ: فَيَقْعُدُ؟ قَالَ: «لَا بَلْ يَخْرُجُ مَعَ النَّاسِ، فَيَصْنَعُ مَا يَصْنَعُونَ، فَإِذَا أَدْرَكَهُ قَابِلٌ حَجَّ وَأَهْدَى»، فَرَجَعَا إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَأَخْبَرَاهُ، فَأَرْسَلَنَا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ شُعَيْبٌ فَذَهَبْتُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مَعَهُ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ ابْنُ عَمْرٍو فَرَجَعَ إِلَيْهِ، فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: مَا تَقُولُ أَنْتَ؟ فَقَالَ مِثْلَ مَا قَالَا رواه ابن أبي شيبة (13085) حسن وحسنه شيخنا مصطفى العدوي 0
4- قال ابن قدامة في المغني (3/308)  أَمَّا فَسَادُ الْحَجِّ بِالْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ، فَلَيْسَ فِيهِ اخْتِلَافٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ لَا يَفْسُدُ بِإِتْيَانِ شَيْءٍ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ إلَّا الْجِمَاعَ اهـ
القول الثاني : وهو مذهب داود الظاهري يرى أن حجه صحيح  ورجحه صديق حسن خان وشيخنا مصطفى العدوي وهو الراجح
 قال الشوكاني في نيل الأوطار (5/21) وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْبَابِ مِنْ الْمَرْفُوعِ مَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ وَالْمَوْقُوفُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَمَنْ لَمْ يَقْبَلْ الْمُرْسَلَ وَلَا رَأَى حُجِّيَّةَ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فَهُوَ فِي سَعَةٍ عَنْ الْتِزَامِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَلَهُ فِي ذَلِكَ سَلَفٌ صَالِحٌ كَدَاوُد الظَّاهِرِيِّ.
قال صديق حسن خان رحمه الله في الروضة الندية (2/74)
وأما فساد الحج بالجماع قبل الوقوف بعرفة: فإن كان الدليل على هذا الفساد أقوال الصحابة؛ فمع كون الروايات عنهم إنما هي بطريق البلاغ - كما ذكره مالك في " الموطإ "، وليس ذلك بحجة لو كان في المرفوع فضلا عن الموقوف -: فقد عرفت غير مرة أن قول الصحابي ليس بحجة؛ إنما الحجة في إجماعهم عند من يقول بحجية الإجماع.
وأما الاستدلال على ذلك بما أخرجه أبو داود في " المراسيل " بإسناد رجاله ثقات: أن رجلا جامع امرأته وهما محرمان، فسألا النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: " اقضيا نسككما، واهديا هديا ": فالمرسل لا حجة فيه على ما هو الحق.
وأما الاستدلال بقوله - تعالى -: {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} : فعلى تسليم أن الرفث هو الجماع؛ غاية ما يدل عليه المنع منه، لا أنه يفسد الحج، وإلا لزم في الجدال أنه يفسد الحج؛ ولا قائل بذلك.
والمروي في هذا الحديث المرسل هو إيجاب الهدي عليهما، والهدي يصدق على الشاة والبقرة والبدنة، ولا وجه لإيجاب أشد ما يطلق عليه اسم الهدي.
ولا حجة فيما رواه في " الموطإ " عن ابن عباس: أنه سئل عن رجل واقع أهله وهو بمنى قبل أن يفيض؟ فأمره أن ينحر بدنة؛ ولا يصح تقييد المطلق به ولا تفسير المجمل.
فالحاصل: أن البراءة الأصلية مستصحبة، ولا ينقل عنها إلا ناقل صحيح تقوم به الحجة، وليس ههنا ما هو كذلك، فمن وطئ قبل الوقوف أو بعده، قبل الرمي أو قبل طواف الزيارة: فهو عاص يستحق العقوبة، وتغفر له بالتوبة، ولا يبطل حجه، ولا يلزمه شيء، ومن زعم غير هذا؛ فعليه الدليل المرضي، فليس بين أحد وبين الحق عداوة اهـ
قال شيخنا مصطفى العدوي في أحكام النساء (2/551)
باستعراض ما تقدم من هذا البحث الطويل لم نجد حديثا مسندا صحيحا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب 0
أما قوله تعالى : {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} فليس صريحا في بيان بطلان حج من جامع ، بل غايته النهي عن الرفث في الحج 0
أما بالنسبة لأقوال الصحابة رضوان الله عليهم فلم تجمع في هذا الباب على رأي واحد أي لم يحدث إجماع منهم رضي الله عنهم على إلزام المجامع بعمل معين 0
هذا وقد نقل غير واحد الإجماع على فساد الحج كما تقدم لكن انخرم هذا الإجماع بما نقله الشوكاني رحمه الله تعالى وعلى ذلك فيتخلص لنا أن من جامع أهله وهو محرم فقد عصى الله تبارك وتعالى وأثم وعليه أن يستغفر الله ويعمل صالحا 0
أما الحكم ببطلان حجه أو أمره بالافتراق والبعد عن زوجته من مكان الجماع وفساد الحج والإلزام بإتمام ذلك الحج الفاسد أو نحر بدنه أو غير ذلك فليس معنا في ذلك من كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والله تعالى أعلى وأعلم
ثامنا : ( المباشرة )
تنازع العلماء في ذلك :
القول الأول : قَالَ مَالِكٌ: إنْ هُوَ لَمَسَ أَوْ قَبَّلَ أَوْ بَاشَرَ فَأَنْزَلَ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ قَابِلًا وَقَدْ أَفْسَدَ حَجَّهُ وَمَنْ قَبَّلَ أَوْ غَمَزَ أَوْ بَاشَرَ أَوْ جَسَّ أَوْ تَلَذَّذَ بِشَيْءٍ مِنْ أَهْلِهِ فَلَمْ يُنْزِلْ وَلَمْ تَغِبْ الْحَشَفَةُ مِنْهُ فِي ذَلِكَ مِنْهَا فَعَلَيْهِ بِذَلِكَ الدَّمُ وَحَجُّهُ تَامٌّ انظر المدونة (1/439) ولا دليل على ذلك 0
القول الثاني : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَالشَّافِعِيُّ: مَنْ جَامَعَ دُونَ الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا دَمٌ وَتُجْزِئُهُ شَاةٌ وَحَجُّهُ تَامٌّ.انظر المحلى (5/289) قَالَ ابن حزم : وَرُوِّينَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَمْ يَصِحَّ فِيمَنْ نَظَرَ فَأَمْذَى، أَوْ أَمْنَى: عَلَيْهِ دَمٌ. وَعَنْ عَلِيٍّ وَلَا يَصِحُّ: مَنْ قَبَّلَ فَعَلَيْهِ دَمٌ.
أَمَّا رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَعَنْ شَرِيكٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ.
وَأَمَّا رِوَايَةُ عَلِيٍّ فَعَنْ شَرِيكٍ عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيُّ - وَكُلُّهُمْ لَا شَيْءُ؟
 إيجَابُ الدَّمِ فِي ذَلِكَ قَوْلٌ لَمْ يُوجِبْهُ قُرْآنٌ، وَلَا سُنَّةٌ، وَلَا قِيَاسٌ، وَلَا قَوْلٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
القول الثالث : وهو قول سعيد بن جبير  وعطاء وابن حزم ورجحه شيخنا مصطفى العدوي وهو الراجح أنه يَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ مِنْ امْرَأَتِهِ كُلُّ شَيْءٍ إلا الجماع انظر المحلى  قال ابن حزم في المحلى (5/289) وَمُبَاحٌ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يُقَبِّلَ امْرَأَتَهُ وَيُبَاشِرَهَا مَا لَمْ يُولِجْ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَنْهَ إلَّا عَنْ الرَّفَثِ، وَالرَّفَثُ: الْجِمَاعُ، فَقَطْ. وَلَا عَجَبَ أَعْجَبُ مِمَّنْ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَنْهَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا رَسُولُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَطُّ عَنْ ذَلِكَ، وَيُبْطِلُ الْحَجَّ بِالْإِمْنَاءِ فِي مُبَاشَرَتِهَا الَّتِي لَمْ يَنْهَهُ قَطُّ قُرْآنٌ وَلَا سُنَّةٌ عَنْهَا، ثُمَّ لَا يُبْطِلُ حَجَّهُ بِالْفُسُوقِ الَّذِي صَحَّ نَهْيُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ عَنْهُ فِي الْحَجِّ مِنْ تَرْكِ الصَّلَاةِ، وَقَتْلِ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى بِغَيْرِ الْحَقِّ وَسَائِرِ الْفُسُوقِ، إنَّ هَذَا لَعَجَبٌ
تاسعا : ( الفسوق والمعاصي والمجادلة )
قال تعالى : {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } سورة البقرة ( 197) وعن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ رواه البخاري (1521) ومسلم (1350)
قال القرطبي في تفسيره (2/407)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلا فُسُوقَ" يَعْنِي جَمِيعَ الْمَعَاصِي كُلَّهَا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ. وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَجَمَاعَةٌ: الْفُسُوقُ إِتْيَانُ مَعَاصِي اللَّهِ عز وجل فِي حَالِ إِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ، كَقَتْلِ الصَّيْدِ وَقَصِّ الظُّفْرِ وَأَخْذِ الشَّعْرِ، وَشَبَهِ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَمَالِكٌ: الْفُسُوقُ الذَّبْحُ لِلْأَصْنَامِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ" «1» [الانعام: 145]. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْفُسُوقُ التَّنَابُزُ بِالْأَلْقَابِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ:" بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ" «2» [الحجرات: 11]. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ أَيْضًا: الْفُسُوقُ السِّبَابُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ). وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ، لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْأَقْوَالِ اهـ
وقال السعدي في تفسيره (1/91)
والفسوق وهو: جميع المعاصي، ومنها محظورات الإحرام.
والجدال وهو: المماراة والمنازعة والمخاصمة، لكونها تثير الشر، وتوقع العداوة.
والمقصود من الحج، الذل والانكسار لله، والتقرب إليه بما أمكن من القربات، والتنزه عن مقارفة السيئات، فإنه بذلك يكون مبرورا والمبرور، ليس له جزاء إلا الجنة، وهذه الأشياء وإن كانت ممنوعة في كل مكان وزمان، فإنها يتغلظ المنع عنها في الحج اهـ
فوائد : 1- قال الألباني رحمه الله في حجة النبي صلى الله عليه وسلم (24) وقد تتطلب الدعوة إلى ما سبق شيئا قليلا أو كثيرا من الجدال بالتي هي أحسن كما قال الله عز وجل: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) - النحل: 125. فلا يصدنك عن ذلك معارضة الجهلة بقوله تعالى: (. . . فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) - البقرة: 196. فأن الجدال المنهي عنه في الحج هو كالفسق المنهي عنه في غير الحج أيضا وهو الجدال بالباطل وهو غير الجدال المأمور به في آية الدعوة قال ابن حزم رحمه الله (5 / 209) :وَالْجِدَالُ قِسْمَانِ: قِسْمٌ فِي وَاجِبٍ وَحَقٍّ، وَقِسْمٌ فِي بَاطِلٍ؛ فَاَلَّذِي فِي الْحَقِّ وَاجِبٌ فِي الْإِحْرَامِ وَغَيْرِ الْإِحْرَامِ قَالَ تَعَالَى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] .
وَمَنْ جَادَلَ فِي طَلَبِ حَقٍّ لَهُ فَقَدْ دَعَا إلَى سَبِيلِ رَبِّهِ تَعَالَى، وَسَعَى فِي إظْهَارِ الْحَقِّ وَالْمَنْعِ مِنْ الْبَاطِلِ، وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ جَادَلَ فِي حَقٍّ لِغَيْرِهِ أَوْ لِلَّهِ تَعَالَى.
وَالْجَدَلُ بِالْبَاطِلِ وَفِي الْبَاطِلِ عَمْدًا ذَاكِرًا لِإِحْرَامِهِ مُبْطِلٌ لِلْإِحْرَامِ وَلِلْحَجِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] وهذا كله على أن (الجدال) في الآية بمعنى المخاصمة والملاحاة حتى تغضب صاحبك. وقد ذهب إلى هذا المعنى جماعة من السلف وعزاه ابن قدامة في (المغني) (3 / 296) إلى الجمهور ورجحه. وهناك في تفسيره قول آخر: وهو المجادلة في وقت الحج ومناسكه واختاره ابن جرير ثم ابن تيمية في (مجموعة الرسائل الكبرى) (2 / 361)
وعلى هذا فالآية غير واردة فيما نحن فيه أصلا. والله أعلم
ومع ذلك فإنه ينبغي أن يلاحظ الداعية أنه إذا تبين له أنه لا جدوى من المجادلة مع المخالفة له لتعصبه لرأيه وأنه إذا صابره على الجدل فلربما ترتب عليه ما لا يجوز
فمن الخير له حينئذ أن يدع الجدال معه لقوله صلى الله عليه وسلم:
(حسن) (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا) . رواه أبو داود بسند حسن عن أبي أمامة وللترمذي نحوه من حديث أنس وحسنه
وفقنا الله والمسلمين لمعرفة سنة نبيه صلى الله عليه وسلم واتباع هديه
عاشرا : ( الصيد )
لقوله تعالى : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ) ( المائدة 95) والمقصود بالصيد المنهي عنه : صيد الحيوان البري ، قال الشنقيطي في أضواء البيان (1/ 429) أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَنْعِ صَيْدِ الْبَرِّ لِلْمُحْرِمِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ.وَهَذَا الْإِجْمَاعُ فِي مَأْكُولِ اللَّحْمِ الْوَحْشِيِّ كَالظَّبْيِ، وَالْغَزَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، اهـ وأما الحيوان البحري الذي يعيش في البحر فجائز صيده للمحرم لقوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (المائدة 96) قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ صَيْدَ الْبَحْرِ مُبَاحٌ لِلْمُحْرِمِ اصْطِيَادُهُ وَأَكْلُهُ وَبَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ انظر المجموع (7/333)
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَكْلِ الْمُحْرِمِ مِمَّا صَادَهُ حَلَالٌ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ، القول الأول : لَا يَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ مُطْلَقًا، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَاللَّيْثِ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ وَالْهَادَوِيَّةِ انظر  نيل الأوطار (5/25) ودليلهم : عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيِّ، أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِمَارًا وَحْشِيًّا، وَهُوَ بِالأَبْوَاءِ، أَوْ بِوَدَّانَ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِهِ قَالَ: «إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ رواه البخاري (1825) ومسلم (1193) وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ} [المائدة:  
القول الثاني : بِجَوَازِ أَكْلِ الْمُحْرِمِ مَا صَادَهُ الْحَلَالُ مُطْلَقًا ،وهو مذهب أبي حنيفة  وَاحْتَجَّ بِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِجَوَازِ أَكْلِ الْمُحْرِمِ مِنْ صَيْدِ الْحَلَالِ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنَّا مَعَ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ وَنَحْنُ حُرُمٌ فَأُهْدِيَ لَهُ طَيْرٌ، وَطَلْحَةُ رَاقِدٌ، فَمِنَّا مَنْ أَكَلَ، وَمِنَّا مَنْ تَوَرَّعَ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ طَلْحَةُ وَفَّقَ مَنْ أَكَلَهُ، وَقَالَ: «أَكَلْنَاهُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» رواه مسلم (1197)
القول الثالث : إذا كان الصيد قد صِيدَ من أجل المُحرم أو أعان أو أشار إليه فإنه لا يجوز له أن يأكل منه وكذا إذا اصطاده هو : وإلا فإنه يجوز له أن يأكل منه وهو مذهب الجمهو وهو الراجح والدليل : عن أَبِي قَتَادَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ حَاجًّا، فَخَرَجُوا مَعَهُ، فَصَرَفَ طَائِفَةً مِنْهُمْ فِيهِمْ أَبُو قَتَادَةَ، فَقَالَ: «خُذُوا سَاحِلَ البَحْرِ حَتَّى نَلْتَقِيَ» فَأَخَذُوا سَاحِلَ البَحْرِ، فَلَمَّا انْصَرَفُوا، أَحْرَمُوا كُلُّهُمْ إِلَّا أَبُو قَتَادَةَ لَمْ يُحْرِمْ، فَبَيْنَمَا هُمْ يَسِيرُونَ إِذْ رَأَوْا حُمُرَ وَحْشٍ، فَحَمَلَ أَبُو قَتَادَةَ عَلَى الحُمُرِ فَعَقَرَ مِنْهَا أَتَانًا، فَنَزَلُوا فَأَكَلُوا مِنْ لَحْمِهَا، وَقَالُوا: أَنَأْكُلُ لَحْمَ صَيْدٍ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ؟ فَحَمَلْنَا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِ الأَتَانِ، فَلَمَّا أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا أَحْرَمْنَا، وَقَدْ كَانَ أَبُو قَتَادَةَ لَمْ يُحْرِمْ، فَرَأَيْنَا حُمُرَ وَحْشٍ فَحَمَلَ عَلَيْهَا أَبُو قَتَادَةَ، فَعَقَرَ مِنْهَا أَتَانًا، فَنَزَلْنَا، فَأَكَلْنَا مِنْ لَحْمِهَا، ثُمَّ قُلْنَا: أَنَأْكُلُ لَحْمَ صَيْدٍ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ؟ فَحَمَلْنَا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا، قَالَ: «أَمِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا، أَوْ أَشَارَ إِلَيْهَا». قَالُوا: لاَ، قَالَ: «فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا رواه البخاري (1824) ومسلم (1196) وعن
جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «صَيْدُ البَرِّ لَكُمْ حَلَالٌ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ، مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَدْ لَكُمْ» رواه الترمذي (846) ضعفه الألباني وصححه الحاكم والذهبي واحتج به ابن باز واللجنة الدائمة والشنقيطي رحمهم الله 0
قال الشوكاني في نيل الأوطار (5/25) وَالْحَقُّ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الْمُخْتَلِفَةِ فَقَالُوا: أَحَادِيثُ الْقَبُولِ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا يَصِيدُهُ الْحَلَالُ لِنَفْسِهِ ثُمَّ يُهْدِي مِنْهُ لِلْحُرُمِ وَأَحَادِيثُ الرَّدِّ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا صَادَهُ الْحَلَالُ لِأَجْلِ الْمُحْرِمِ قَالُوا: وَالسَّبَبُ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الْإِحْرَامِ عِنْدَ الِاعْتِذَارِ لِلصَّعْبِ أَنَّ الصَّيْدَ لَا يَحْرُمُ عَلَى الْمَرْءِ إذَا صِيدَ لَهُ إلَّا إذَا كَانَ مُحْرِمًا فَاقْتَصَرَ عَنْ تَبْيِينِ الشَّرْطِ الْأَصْلِيِّ وَسَكَتَ عَمَّا عَدَاهُ فَلَمْ يَدُلَّ عَلَى نَفْيِهِ اهـ
قال ابن عثيمين في الشرح الممتع (7/149)
إذا صاد المحل صيداً وأطعمه المحرم، فهل يكون حلالاً للمحرم؟
الجواب: قال بعض العلماء: إنه حرام على المحرم، واستدلوا بعموم قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] ، قالوا: هذا صيد بر، فيحرم على المحرم ولو كان الذي قتله حلالاً.
وبحديث الصعب بن جثامة، حين صاد حماراً وحشياً فجاء به إلى الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فرده، وقال: «إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم» ، ولم يقل: إلا أنك صدته لنا.وقولهم قوي بلا شك.
لكن الصحيح أنه يحل للمحرم ، ومعنى قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ} [المائدة: 96] أن «صيد» مصدر، أي: حرم عليكم أن تصيدوا صيد البر، وليس بمعنى مصيد، وهذا المحرم ليس له أثر في هذا الصيد، لا دلالة، ولا إعانة، ولا مشاركة، ولا استقلالاً، ولا صِيد من أجله. ويؤيد ذلك قصة أبي قتادة ـ رضي الله عنه ـ حين ذهب مع
سرية له إلى سيف البحر عام الحديبية، فرأى حماراً وحشياً فركب فرسه، فنسي رمحه، وقال لأحد أصحابه: ناولني الرمح، قال: ما أناولك إياه أنا محرم فنزل وأخذه، فضرب الصيد، فجاء به إلى أصحابه فأطعمهم إياه، ولكن صار في قلوبهم شك حتى وصلوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فسألوه فأذن لهم في أكله، مع أنهم حرم.
فيجمع بينه وبين حديث الصعب بن جثامة: بأن أبا قتادة ـ رضي الله عنه ـ صاده لنفسه، وأن الصعب ـ رضي الله عنه ـ صاده للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وهذا الجمع أولى من النسخ؛ لأن بعض العلماء قال: إن حديث الصعب ناسخ؛ لأنه متأخر، وقد رده الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وقال: «إنا حرم» .
والصحيح أنه مع إمكان الجمع لا نسخ، والجمع هنا ممكن ويدل له ما أخرجه أهل السنن عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «صيد البر حلال لكم ما لم تصيدوه أو يصد لكم».
فإذا قال قائل: أبو قتادة ـ رضي الله عنه ـ معه قومه وصاد الحمار، فكيف يريده لنفسه ولم يصده لقومه؟!
فالجواب: أن أبا قتادة ـ رضي الله عنه ـ صاده لنفسه أصلاً، ولقومه تبعاً، هذا إن لم نتجاوز ونقول: إن أبا قتادة ـ رضي الله عنه ـ غضب عليهم؛ لأنهم منعوه الرمح فصاده لنفسه، ولكن هذا بعيد لأنهم ما امتنعوا بخلاً بمعونتهم، لكن امتنعوا لسبب شرعي، فقالوا: إنا حرم لا نعطيك إياه، فلا أظن أبا قتادة ـ رضي الله عنه ـ يكون في نفسه شيء عليهم، فيريد أن يختص بالصيد، ولكنه وقع في نفسه أنه صاده لنفسه وسيطعم أصحابه، بخلاف الذي لم يصد الحمار الوحشي إلا للرسول صلّى الله عليه وسلّم. فبين القصدين فرق عظيم، وهذا الذي يكون به الجمع بين الأدلة اهـ
--- اعلم أن الحيوان غير المأكول أقسام : فمنه ما أمر بقتله عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خَمْسٌ فَوَاسِقُ، يُقْتَلْنَ فِي الْحَرَمِ: الْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْحُدَيَّا، وَالْغُرَابُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ  رواه البخاري (1829) ومسلم (1198) وفي رواية الحية مكان العقرب  قال النووي في شرح مسلم (8/113) فَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ السِّتُّ وَاتَّفَقَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ قَتْلِهِنَّ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَقْتُلَ مَا فِي مَعْنَاهُنَّ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْمَعْنَى فِيهِنَّ وَمَا يَكُونُ فِي مَعْنَاهُنَّ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ الْمَعْنَى فِي جَوَازِ قَتْلِهِنَّ كَوْنُهُنَّ مِمَّا لَا يؤكل وكل مالا يُؤْكَلُ وَلَا هُوَ مُتَوَلِّدٌ مِنْ مَأْكُولٍ وَغَيْرِهِ فَقَتْلُهُ جَائِزٌ لِلْمُحْرِمِ وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ وَقَالَ مَالِكٌ الْمَعْنَى فِيهِنَّ كَوْنُهُنَّ مُؤْذِيَاتٍ فَكُلُّ مُؤْذٍ يجوز للمحرم قتله ومالا فَلَا 00وَأَمَّا تَسْمِيَةُ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ فَوَاسِقُ فَصَحِيحَةٌ جَارِيَةٌ عَلَى وَفْقِ اللُّغَةِ وَأَصْلُ الْفِسْقِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْخُرُوجُ وَسُمِّيَ الرَّجُلُ الْفَاسِقُ لِخُرُوجِهِ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَطَاعَتِهِ فَسُمِّيَتْ هَذِهِ فَوَاسِقُ لِخُرُوجِهَا بِالْإِيذَاءِ وَالْإِفْسَادِ عَنْ طَرِيقِ مُعْظَمِ الدَّوَابِّ وَقِيلَ لِخُرُوجِهَا عَنْ حُكْمِ الْحَيَوَانِ فِي تَحْرِيمِ قَتْلِهِ فِي الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ وَقِيلَ فِيهَا لِأَقْوَالٍ أُخَرَ ضَعِيفَةٍ لَا نَعْتَنِيهَا 00 وَحَكَى السَّاجِيُّ عَنِ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ قَتْلُ الْفَارَةِ وَحُكِيَ غَيْرُهُ عَنْ عَلِيٍّ وَمُجَاهِدٍ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ الْغُرَابُ وَلَكِنْ يُرْمَى وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ عَنْ عَلِيٍّ وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ قَتْلِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ لِلْمُحْرِمِ وَالْحَلَالِ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِهِ فَقِيلَ هَذَا الْكَلْبُ الْمَعْرُوفُ خَاصَّةً حَكَاهُ الْقَاضِي عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَأَلْحَقُوا بِهِ الذِّئْبَ وَحَمَلَ زُفَرُ مَعْنَى الْكَلْبِ عَلَى الذِّئْبِ وَحْدَهُ وَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ تَخْصِيصَ هَذَا الْكَلْبِ الْمَعْرُوفِ بَلِ الْمُرَادُ هُوَ كُلُّ عَادٍ مُفْتَرِسٍ غَالِبًا كَالسَّبُعِ وَالنَّمِرِ وَالذِّئْبِ وَالْفَهْدِ وَنَحْوِهَا وَهَذَا قَوْلُ زَيْدِ بْنِ أسلم وسفيان الثورى وبن عُيَيْنَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ وَحَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عنهم وعن جمهور العلماء ومعنى العقور والعاقر الْجَارِحُ – قلت عمرو : قال الصنعاني في سبل السلام (1/625) وَالْمُرَادُ بِالْكَلْبِ هُوَ الْمَعْرُوفُ وَتَقْيِيدُهُ بِالْعَقُورِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ غَيْرُ الْعَقُورِ، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ تَفْسِيرُ الْكَلْبِ الْعَقُورِ بِالْأَسَدِ وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ تَفْسِيرُهُ بِالْحَيَّةِ، وَعَنْ سُفْيَانَ أَنَّهُ الذِّئْبُ خَاصَّةً، وَقَالَ مَالِكٌ: كُلُّ مَا عَقَرَ النَّاسَ وَأَخَافَهُمْ وَعَدَا عَلَيْهِمْ مِثْلُ الْأَسَدِ وَالنَّمِرِ وَالْفَهْدِ، وَالذِّئْبُ هُوَ الْكَلْبُ الْعَقُورُ وَنُقِلَ عَنْ سُفْيَانَ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبًا مِنْ كِلَابِك، فَقَتَلَهُ الْأَسَدُ» وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ – قلت : وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وحسنه ابن حجر والشوكاني - اهـ – قال النووي : وَأَمَّا الْحِدَأَةُ فَمَعْرُوفَةٌ وَهِيَ بِكَسْرِ الْحَاءِ مَهْمُوزَةٌ وَجَمْعُهَا حِدَأٌ بِكَسْرِ الْحَاءِ مَقْصُورٌ مَهْمُوزٌ كَعِنَبَةِ وَعِنَبٍ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الْحُدَيَّا بِضَمِّ الْحَاءِ وَفَتْحِ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ مَقْصُورٌ قَالَ الْقَاضِي قَالَ ثَابِتٌ الْوَجْهُ فِيهِ الْهَمْزُ عَلَى مَعْنَى التَّذْكِيرِ وَإِلَّا فَحَقِيقَتُهُ حُدَيَّةٌ وَكَذَا قَيَّدَهُ الْأَصِيلِيُّ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي مَوْضِعٍ أَوْ الْحُدَيَّةُ عَلَى التَّسْهِيلِ وَالْإِدْغَامِ وَقَوْلُهُ فِي الْحَيَّةِ (تُقْتَلُ بِصُغْرٍ لَهَا) هُوَ بِضَمِّ الصَّادِ أَيْ بِمَذَلَّةٍ وَإِهَانَةٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (خَمْسٌ فَوَاسِقُ) هُوَ بِتَنْوِينِ خَمْسٍ وَقَوْلُهُ بِقَتْلِ خَمْسِ فَوَاسِقَ بِإِضَافَةِ خَمْسِ لَا بِتَنْوِينِهِ اهـ
قال الصنعاني في سبل السلام (1/625) وَأَطْلَقَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَفْظَ الْغُرَابِ وَقَيَّدَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ بِالْأَبْقَعِ وَهُوَ الَّذِي فِي ظَهْرِهِ أَوْ بَطْنِهِ بَيَاضٌ فَذَهَبَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ إلَى تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ بِهَذَا وَهِيَ الْقَاعِدَةُ فِي حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ. وَالْقَدْحُ فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ بِالشُّذُوذِ وَتَدْلِيسُ الرَّاوِي مَدْفُوعٌ بِأَنَّهُ صَرَّحَ الرَّاوِي بِالسَّمَاعِ فَلَا تَدْلِيسَ وَبِأَنَّهَا زِيَادَةٌ مِنْ عَدْلٍ ثِقَةٍ حَافِظٍ فَلَا شُذُوذَ: قَالَ الْمُصَنِّفُ: قَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى إخْرَاجِ الْغُرَابِ الصَّغِيرِ الَّذِي يَأْكُلُ الْحَبَّ وَيُقَالُ لَهُ: غُرَابُ الزَّرْعِ وَقَدْ احْتَجُّوا بِجَوَازِ أَكْلِهِ فَبَقَّى مَا عَدَاهُ مِنْ الْغِرْبَانِ مُلْحَقًا بِالْأَبْقَعِ اهـ
ومنه ما نهى عن قتله فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ قَتْلِ أَرْبَعٍ مِنَ الدَّوَابِّ: النَّمْلَةُ، وَالنَّحْلَةُ، وَالْهُدْهُدُ، وَالصُّرَدُ رواه أبو داود (5267) حديث صحيح وصححه الألباني
والصرد" (طائر أكبر من العصفور، ضخم الرأس والمنقار يصيد صغار الحشرات ) وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ: «أَنَّ طَبِيبًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ضِفْدَعٍ، يَجْعَلُهَا فِي دَوَاءٍ فَنَهَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِهَا» رواه أبو داود (5269) وصححه الألباني قال ابن حزم في المحلى (5/267) وَجَائِزٌ لِلْمُحْرِمِ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، وَلِلْمُحِلِّ فِي الْحَرَمِ وَالْحِلِّ قَتْلُ كُلِّ مَا لَيْسَ بِصَيْدٍ مِنْ الْخَنَازِيرِ، وَالْأُسْدِ وَالسِّبَاعِ، وَالْقَمْلِ، وَالْبَرَاغِيثِ، وَقِرْدَانِ بَعِيرِهِ أَوْ غَيْرِ بَعِيرِهِ، وَالْحَلَمِ كَذَلِكَ.
وَنَسْتَحِبُّ لَهُمْ قَتْلَ الْحَيَّاتِ، وَالْفِئْرَانِ، وَالْحِدَأِ وَالْغِرْبَانِ، وَالْعَقَارِبِ، وَالْكِلَابِ الْعَقُورَةِ، صِغَارُ كُلِّ ذَلِكَ وَكِبَارُهُ سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ الْوَزَغُ وَسَائِرُ الْهَوَامِّ - وَلَا جَزَاءَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُلِّ مَا ذَكَرْنَا وَلَا فِي الْقَمْلِ.
فَإِنْ قَتَلَ مَا نُهِيَ عَنْ قَتْلِهِ مِنْ هُدْهُدٍ، أَوْ صُرَدٍ، أَوْ ضُفْدَعٍ، أَوْ نَمْلٍ: فَقَدْ عَصَى وَلَا جَزَاءَ فِي ذَلِكَ.
بُرْهَانُ مَا ذَكَرْنَا -: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ قَتْلَ مَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ لَمْ يَنْهَ الْمُحْرِمَ إلَّا عَنْ قَتْلِ الصَّيْدِ فَقَطْ، وَلَا نَهَى إلَّا عَنْ صَيْدِ الْحَرَمِ فَقَطْ، وَلَا جَعَلَ الْجَزَاءَ إلَّا فِي الصَّيْدِ فَقَطْ.
فَمَنْ حَرَّمَ مَا لَمْ يَأْتِ النَّصُّ بِتَحْرِيمِهِ، أَوْ جَعَلَ جَزَاءً فِيمَا لَمْ يَأْتِ النَّصُّ بِالْجَزَاءِ فِيهِ: فَقَدْ شَرَّعَ فِي الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ اهـ
--- قال ابن عثيمين : قوله: «ولو تولد منه ومن غيره» ، أي: لو تولد الصيد من الوحشي والإنسي أو من المأكول وغيره، فإنه يكون حراماً.مثل: لو تولد شيء من صيد بري متوحش، وصيد بري غير متوحش، فإنه يكون حراماً؛ للقاعدة المشهورة: «أنه إذا اجتمع في شيء مبيح وحاظر، ولم يتميز المبيح من الحاظر، فإنه يغلب جانب الحاظر» ؛ لأنه لا يمكن اجتناب المحظور إلا باجتناب الحلال، فوجب الاجتناب انظر الشرح الممتع (7/144)


( أحكام الفدية وجزاء الصيد )
معنى الفدية :
ما يعطي فداء الشيء ، ومنه فدية الأسير 0
وقد ذكرنا أن هناك محظورات للإحرام ، فإذا وقع الإنسان في بعض هذه المحظورات فعليه فدية ، وهي تختلف من محظور لآخر على النحو الآتي :
أقسام المحظورات بالنسبة للفدية :
الأول : ما لا فدية فيه : وهو عقد النكاح 0
الثاني : هل يبطل الحج بالجماع ، وما جزاء الوطء  0
الثالث : ما فديته الجزاء أو بدله ، وهي جزاء الصيد 0
الرابع : ما فديته فدية أذى ، وهو بقية المحظورات 0
أولا : فدية الأذى : وهي صيام ثلاثة أيام أو أطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع ، أو ذبح شاة والأصل في ذلك قوله تعالى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] هكذا على التخيير ، والمحظورات التي يجب بها فدية الأذي :
( 1 ) حلق الرأس ؛عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَعْقِلٍ، قَالَ: قَعَدْتُ إِلَى كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]؟ فَقَالَ كَعْبٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: نَزَلَتْ فِيَّ، كَانَ بِي أَذًى مِنْ رَأْسِي، فَحُمِلْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي، فَقَالَ: «مَا كُنْتُ أُرَى أَنَّ الْجَهْدَ بَلَغَ مِنْكَ مَا أَرَى أَتَجِدُ شَاةً؟» فَقُلْتُ: لَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ، قَالَ: «صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، أَوْ إِطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِينَ نِصْفَ صَاعٍ، طَعَامًا لِكُلِّ مِسْكِينٍ»، قَالَ: فَنَزَلَتْ فِيَّ خَاصَّةً، وَهِيَ لَكُمْ عَامَّة رواه البخاري (1816) ومسلم (1201)
قال النووي رحمه الله في شرح مسلم (8/121) أَنَّ مَنِ احْتَاجَ إِلَى حَلْقِ الرَّأْسِ لِضَرَرٍ مِنْ قَمْلٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ نَحْوِهِمَا فَلَهُ حَلْقُهُ فِي الْإِحْرَامِ وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ من صيام أو صدقة أو نسك وَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الصِّيَامَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَالصَّدَقَةَ ثَلَاثَةُ آصُعٍ لِسِتَّةِ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ وَالنُّسُكَ شَاةٌ وهي شاة تجزيء فِي الْأُضْحِيَّةِ ثُمَّ إِنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ وَالْأَحَادِيثَ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ وَهَكَذَا الْحُكْمُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي رِوَايَةٍ هَلْ عِنْدَكَ نُسُكٌ قَالَ مَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أن الصوم لا يجزئ إِلَّا لِعَادِمِ الْهَدْيِ بَلْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ سَأَلَ عَنِ النُّسُكِ فَإِنْ وَجَدَهُ أَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ وَإِنْ عَدِمَهُ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ وَاتَّفَقَ جماهير الْعُلَمَاءُ عَلَى الْقَوْلِ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ أَنَّ نِصْفَ الصَّاعِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ إِنَّمَا هُوَ فِي الْحِنْطَةِ فَأَمَّا التَّمْرُ وَالشَّعِيرُ وَغَيْرُهُمَا فَيَجِبُ صَاعٌ لكل مسكين وهذا خلاف نصفه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ثَلَاثَةَ آصُعٍ مِنْ تَمْرٍ وَعَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رِوَايَةُ أَنَّهُ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ مِنْ حِنْطَةٍ أَوْ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ غَيْرِهِ وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَبَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ يَجِبُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ أَوْ صَوْمُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ وَهَذَا ضَعِيفٌ مُنَابِذٌ لِلسُّنَّةِ مَرْدُودٌ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَوْ أَطْعِمْ ثَلَاثَةَ آصُعٍ مِنْ تَمْرٍ عَلَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ) مَعْنَاهُ مَقْسُومَةٌ عَلَى ستة مساكين والآصع جَمْعُ صَاعٍ وَفِي الصَّاعِ لُغَتَانِ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ وَهُوَ مِكْيَالٌ يَسْعُ خَمْسَةَ أَرْطَالٍ وَثُلُثًا بِالْبَغْدَادِيِّ هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَسَعُ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ وَأَجْمَعُوا على أن الصاع أربعة أمدادا وَهَذَا الَّذِي قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْآصُعَ جَمْعُ صَاعٍ صَحِيحٌ وَقَدْ ثَبَتَ اسْتِعْمَالُ الْآصُعِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِنْ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ هُوَ مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ الصَّحَابَةِ وَالْعُلَمَاءِ بَعْدَهُمْ وَفِي كُتُبِ اللُّغَةِ وَكُتُبِ النَّحْوِ وَالتَّصْرِيفِ وَلَا خِلَافَ فِي جوازه وصحته وأما ما ذكره بن مَكِّيٍّ فِي كِتَابِهِ تَثْقِيفُ اللِّسَانِ أَنَّ قَوْلَهُمْ في جمع الصاع آصُعٌ لَحْنٌ مِنْ خَطَأِ الْعَوَامِّ وَأَنَّ صَوَابَهُ أُصُوعٌ فَغَلَطٌ مِنْهُ وَذُهُولٌ وَعَجَبٌ قَوْلُهُ هَذَا مَعَ اشْتِهَارِ اللَّفْظَةِ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَاللُّغَةِ والعربية وَأَجْمَعُوا عَلَى صِحَّتِهَا وَهُوَ مِنْ بَابِ الْمَقْلُوبِ قَالُوا فَيَجُوزُ فِي جَمْعِ صَاعٍ آصُعٌ وَفِي دَارٍ آدُرٌ وَهُوَ بَابٌ مَعْرُوفٌ فِي كُتُبِ الْعَرَبِيَّةِ لِأَنَّ فَاءَ الْكَلِمَةِ فِي آصُعٍ صَادٌ وَعَيْنُهَا وَاوٌ فَقُلِبَتِ الْوَاوُ هَمْزَةً وَنُقِلَتْ إِلَى مَوْضِعِ الْفَاءِ ثُمَّ قُلِبَتِ الْهَمْزَةُ أَلِفًا حِينَ اجْتَمَعَتْ هِيَ وَهَمْزَةُ الْجَمْعِ فَصَارَ آصُعًا وَوَزْنُهُ عندهم أعقل وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي آدُرٍ وَنَحْوِهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (هَوَامُّ رَأْسِكَ) أَيِ الْقَمْلُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (انْسُكْ نَسِيكَةً) وَفِي رِوَايَةٍ مَا تَيَسَّرَ وَفِي رِوَايَةٍ شَاةً الْجَمِيعُ بِمَعْنَى وَاحِدٍ وَهُوَ شَاةٌ وَشَرْطُهَا أَنْ تجزيء فِي الْأُضْحِيَّةِ وَيُقَالُ لِلشَّاةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يُجْزِئُ فِي الْأُضْحِيَّةِ نَسِيكَةٌ وَيُقَالُ نَسَكَ يَنْسُكُ وَيَنْسِكُ بِضَمِّ السِّينِ وَكَسْرِهَا فِي الْمُضَارِعِ وَالضَّمُّ أَشْهَرُ قَوْلُهُ (كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ) بِضَمِّ الْعَيْنِ وَإِسْكَانِ الْجِيمِ قَوْلُهُ (وَرَأْسُهُ يَتَهَافَتُ قَمْلًا) أَيْ يَتَسَاقَطُ وَيَتَنَاثَرُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (تَصَدَّقْ بِفَرَقٍ) هُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَإِسْكَانِهَا لُغَتَانِ وَفَسَّرَهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ بِثَلَاثَةِ آصُعٍ وَهَكَذَا هُوَ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ وَاضِحًا فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ قَوْلُهُ (فَقَمِلَ رَأْسُهُ) هُوَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ الميم أي كثر قمله اهـ
-- قال ابن عثيمين رحمه الله في الشرح الممتع (7/118)
قوله: «فمن حلق أو قلم ثلاثة فعليه دم» ؛ «من» اسم شرط جازم، «حلق» فعل الشرط، «قلم» معطوف على فعل الشرط، «فعليه دم» الجملة جواب الشرط، أي: فأي محرم حلق ثلاث شعرات فعليه دم، أو قلم ثلاثة أظافر فعليه دم؛ لأن أقل الجمع ثلاثة، وإذا كان أقل الجمع ثلاثة، فإنه إذا حلق ثلاثة صدق عليه أنه حلق الشعر، والعجيب أنهم يقولون ـ أي: الفقهاء ـ: لو قص ثلاث شعرات من رأسه لم يحل، ثم يجعلون ثلاث الشعرات بمنزلة الحلق!
وعلم من قوله: «ثلاثة فعليه دم» ، أنه لو قلَّم دون ذلك أو حلق دون ذلك فليس عليه دم، لكن قالوا: يجب عليه في كل شعرة إطعام مسكين، ولكل ظفر إطعام مسكين ، وهذا التفصيل يحتاج إلى دليل، فأين في السنة ما يدل على أن الشعرة الواحدة فيها إطعام مسكين، أو الظفر الواحد فيه إطعام مسكين؟!
ولهذا اختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ في القدر الذي تجب فيه الفدية، على أقوال: القول الأول: وهو المذهب أنه ثلاثة فأكثر.
القول الثاني: إذا حلق أربع شعرات، فعليه دم.
القول الثالث: إذا حلق خمس شعرات، فعليه دم.
القول الرابع: إذا حلق ربع الرأس، فعليه دم.
القول الخامس: إذا حلق ما به إماطة الأذى، فعليه دم.
وأقرب الأقوال إلى ظاهر القرآن هو الأخير، إذا حلق ما به إماطة الأذى، أي: يكون ظاهراً على كل الرأس ـ وهو مذهب مالك، أي: إذا حلق حلقاً يكاد يكون كاملاً يسلم به الرأس من الأذى؛ لأنه هو الذي يماط به الأذى، والدليل على ذلك:
أولاً: قول الله ـ تعالى ـ في القرآن في شأنه: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ} [البقرة: 196] . فهو لا يحلق إذا كان به أذى من رأسه إلا ما يماط به الأذى، فعليه فدية.
ثانياً: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ فِي رَأْسِهِ » - رواه البخاري (5701) ومسلم (1203) - ، والحجامة في الرأس من ضرورتها أن يحلق الشعر من مكان المحاجم، ولا يمكن سوى ذلك، ولم ينقل عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه افتدى؛ لأن الشعر الذي يزال من أجل المحاجم لا يماط به الأذى، فهو قليل بالنسبة لبقية الشعر، وعلى هذا فنقول: من حلق ثلاث شعرات، أو أربعاً، أو خمساً، أو عشراً، أو عشرين فليس عليه دم ولا غيره، ولا يسمى هذا حلقاً، لكن هل يحل له ذلك أو لا؟
الجواب: لا يحل؛ لأن لدينا قاعدة: «امتثال الأمر لا يتم إلا بفعل جميعه، وامتثال النهي لا يتم إلا بترك جميعه» .
فإذا نهيت عن شيء وجب الانتهاء عنه جملة وأجزاءً، وإذا أمرت بشيء وجب فعله جملة وأجزاءً، وعلى هذا فنقول إذا حرم حلق جميع الرأس أو ما يماط به الأذى، حرم حلق جزء منه. لكن الكلام في الفدية غير الكلام في التحريم.
فإن قال قائل: وهل يكون شيء من محظورات الإحرام محرماً، وليس فيه فدية؟
فالجواب: نعم، فعقد النكاح، والخطبة حرام على المحرم، وليس فيهما فدية.
وعلى رأي بعض الفقهاء، كون الإنسان يزيل القمل عن نفسه، وهو محرم حرام، ولا فدية فيه.
والصحيح أن إزالة القمل ليس بحرام، بل المُحْرِم يستبيح المُحَرَّمَ، وهو حلق الرأس من أجل أن يزول عنه القمل.
إذاً حلق جميع الرأس محرَّم وفيه الفدية، وحلق بعضه محرَّم، ولا فدية فيه إلا إذا حلق ما يماط به الأذى، هذا هو القول الراجح.
فالمسألة ثلاثة أقسام بالنسبة لشعر الرأس:
أولاً: إذا أخذ شعرات فلا يعد حلقاً فليس عليه شيء.
ثانياً: إذا حلق بعض الرأس لكن لعذر كحجامة، أو مداواة جرح، أو ما أشبه ذلك، فإنه يحلق ما احتاج إليه، ولا شيء عليه، ودليلنا في هذا فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم حين احتجم وهو محرم ، ولم ينقل أنه فدى. ثالثاً: إذا حلق الرأس أو أكثره فعليه الفدية، ومعلوم أنه يحرم عليه، ولكن إذا حلق معظم الرأس فالمعظم يلحق بالكل في كثير من المسائل، ولولا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حلق بعض رأسه في الحجامة، ولم يفدِ لقلنا: إذا حلق بعض الرأس وجبت عليه الفدية؛ لأن المحرَّم يشمل القليل والكثير.
ثم اعلم أن العلماء في محظورات الإحرام إذا قالوا: دم في مثل هذا، فلا يعنون أن الدم متعين، بل هو أحد أمور ثلاثة:
الأول: الدم.
الثاني: إطعام ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع.
الثالث: صيام ثلاثة أيام، إلا الجماع في الحج قبل التحلل الأول، فإن فيه بدنة، وإلا جزاء الصيد فإن فيه مثله، كما سيأتي إن شاء الله في الفدية.
وكثيرٌ من الإخوة المفتين كلما أتاهم إنسان يستفتيهم في مثل هذا الذي فيه التخيير قالوا: عليك دم، فيذهب العامي وهو لا يدري ويتكلف بشراء الدم، وربما يستدين لذلك، لكن لو قيل له: أنت بالخيار: عليك دم، أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، أو صيام ثلاثة أيام لهان عليه الأمر، والواجب أن يبين للناس الحكم الشرعي.
والدليل على وجوب الفدية في حلق الرأس قوله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] .
فالمحظورات إذاً أقسام:
الأول: ما لا فدية فيه.
الثاني: ما فديته بدنة.
الثالث: ما فديته مثله.
الرابع: ما فديته التخيير بين هذه الأمور الثلاثة، وهي الصيام والإطعام والنسك، وهذا هو أكثر المحظورات.
مسألة: لا يحرم على المحرم أن يحك رأسه، إلا إن حكه ليتساقط الشعر فهو حرام، لكن من حكه بدافع الحكة ثم سقط شيء بغير قصد، فإنه لا يضره، وقيل: لعائشة ـ رضي الله عنها ـ: «إن قوماً يقولون بعدم حك الرأس؟ قالت: لو لم أستطع أن أحكه بيدي لحككته برجلي» رواه مالك (1 / 358 / 92) ، وهذا منها ـ رضي الله عنها ـ من المبالغة في الحل. ورأيت كثيراً من الحجاج إذا أراد أن يحك رأسه، نقر بأصبعه على رأسه خوفاً من أن يتساقط شعره، وهذا من التنطع اهـ
قال في المغني (3/432)
إذَا حَلَقَ الْمُحْرِمُ رَأْسَ حَلَالٍ، أَوْ قَلَّمَ أَظْفَارَهُ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ. وَبِذَلِكَ قَالَ عَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، فِي مُحْرِمٍ قَصَّ شَارِبَ حَلَالٍ: يَتَصَدَّقُ بِدِرْهَمٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُهُ صَدَقَةٌ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ شَعْرَ آدَمِي، فَأَشْبَهَ شَعْرَ الْمُحْرِمِ.
وَلَنَا، أَنَّهُ شَعْرٌ مُبَاحُ الْإِتْلَافِ، فَلَمْ يَجِبْ بِإِتْلَافِهِ شَيْءٌ، كَشَعْرِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ.
وَإِنْ حَلَقَ مُحْرِمٌ رَأْسَ مُحْرِمٍ بِإِذْنِهِ، فَالْفِدْيَةُ عَلَى مَنْ حُلِقَ رَأْسُهُ. وَكَذَلِكَ إنْ حَلَقَهُ حَلَالٌ بِإِذْنِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} [البقرة: 196] . وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ غَيْرَهُ هُوَ الَّذِي يَحْلِقُهُ، فَأَضَافَ الْفِعْلَ إلَيْهِ، وَجَعَلَ الْفِدْيَةَ عَلَيْهِ.
وَإِنْ حَلَقَهُ مُكْرَهًا أَوْ نَائِمًا، فَلَا فِدْيَةَ عَلَى الْمَحْلُوقِ رَأْسُهُ. وَبِهَذَا قَالَ إِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْقَاسِمِ صَاحِبُ مَالِكٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَى الْمَحْلُوقِ رَأْسُهُ الْفِدْيَةُ. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ كَالْمَذْهَبَيْنِ. وَلَنَا، أَنَّهُ يَحْلِقُ رَأْسَهُ وَلَمْ يُحْلَقْ بِإِذْنِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ انْقَطَعَ الشَّعْرُ بِنَفْسِهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ الْفِدْيَةَ عَلَى الْحَالِقِ، حَرَامًا كَانَ أَوْ حَلَالًا.
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: عَلَى الْحَلَالِ صَدَقَةٌ. وَقَالَ عَطَاءٌ: عَلَيْهِمَا الْفِدْيَةُ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَزَالَ مَا مُنِعَ مِنْ إزَالَتِهِ لِأَجْلِ الْإِحْرَامِ، فَكَانَتْ عَلَيْهِ فِدْيَتُهُ، كَالْمُحْرِمِ يَحْلِقُ رَأْسَ نَفْسِهِ.اهـ
( 2) تقليم الأظفار :
الْمُحْرِم مَمْنُوعٌ مِنْ أَخْذِ أَظْفَارِهِ، وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ بِأَخْذِهَا فِي قَوْلِ أَكْثَرِهِمْ. وَهُوَ قَوْلُ حَمَّادٍ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ وَعَنْهُ: لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ؛ انظر المغني (3/433) قلت : الصحيح لا فدية عليه لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ فِيهِ بِفِدْيَةٍ
( 3 ) إذا تطيب المحرم أو لبس المخيط أو الخف ونحو ذلك )
قلت : تنازع العلماء في ذلك على قولين :
القول الأول : ذهب الأئمة الأربعة إلى وجوب الفدية على من تطيب أو لبس المخيط أو الخف عمدا انظر الفقه الميسر ( 3/117)
القول الثاني : قال أهل الظاهر منهم ابن حزم انظر المحلى ( 5/291) يأثم ولا فدية عليه واختاره الشوكاني وهو الراجح قال الشوكاني في السيل الجرار (317) لم يرد في هذه المذكورات ما يدل على لزوم الفدية والاصل البراءة فلا ينقل عنها إلا ناقل صحيح وقد ورد القرآن الكريم بلزوم الفدية للمريض ومن به اذى من رأسه إذا حلق رأسه كما يفيده أول الآية فيقتصر على ذلك والتشبث بالقياس غير صحيح اهـ
هل يبطل الحج بالجماع ، وما جزاء الوطء ؟
وقد سبق أن الحج لا يبطل بالجماع ولكن هل عليه فديه قلت : تنازع العلماء في ذلك على قولين  القول الأول : ذهب جمهور العلماء أن عليه فدية ودليلهم : عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّهُ قَالَ: الَّذِي يُصِيبُ أَهْلَهُ قَبْلَ أَنْ يُفِيضَ. يَعْتَمِرُ، وَيُهْدِي رواه مالك في الموطأ ت الأعظمي (1433) قال ابن عبد البر في الاستذكار بعد ما ذكر اثر ابن عباس رضي الله عنه (4/265)  قَالَ مَالِكٌ وَذَلِكَ أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ قَالَ أَبُو عُمَرَ كَانَ مَالِكٌ (رَحِمَهُ اللَّهُ) قَدْ سَمِعَ الِاخْتِلَافَ فِي ذَلِكَ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا قَوْلُ مَالِكٍ هذا من وطىء بَعْدَ الْجَمْرَةِ قَبْلَ الْإِفَاضَةِ فَعَلَيْهِ عُمْرَةٌ وَهَدْيٌ وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ وَبِهِ قَالَ رَبِيعَةُ
وَفِيهِ رواية عن بن عَبَّاسٍ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِيمَا ذَكَرَ عَنْهُ الْأَثْرَمُ وَالثَّانِي أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا هَدْيُ بَدَنَةٍ وَحَجُّهُمَا تَامٌّ
هَذَا هُوَ الصحيح عن بن عَبَّاسٍ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ
وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَالشَّعْبِيُّ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُجْزِئُهُ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ
وَالثَّالِثُ أَنَّ حَجَّهُ فَاسِدٌ وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ قَابِلَ وَالْهَدْيُ وَهُوَ قَوْلُ بن عُمَرَ
القول الثاني : ذهب داود وابن حزم لا هدي في ذلك انظر المحلى (5/ 201) وهو الراجح قال ابن حزم رحمه الله : وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ» - رواه البخاري (1741) ومسلم (1679) - فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوجَبُ هَدْيٌ بِغَيْرِ قُرْآنٍ، وَلَا عَهْدٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
 ( جزاء قتل الصيد )
وفي ذلك مسائل :
أولا : قال تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) ( المائدة 95) جزاء قتل الصيد الذي جاءت به هذه الآية يقع على المتعم الذاكر لإحرامه لقوله تعالى : (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً) أما المخطيء والناسي فقد تنازع العلماء في ذلك على قولين : القول الأول : لَا فَرْقَ بَيْنَ الْخَطَأِ وَالْعَمْدِ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ،. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ورواية عن أحمد انظر المغني (3/ 438)
القول الثاني : لَا كَفَّارَةَ فِي الْخَطَأِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَطَاوُسٍ، - ورواية عن أحمد - وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَدَاوُد؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة: 95] . فَدَلِيلُ خِطَابِهِ، أَنَّهُ لَا جَزَاءَ عَلَى الْخَاطِئِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ، فَلَا يَشْغَلُهَا إلَّا بِدَلِيلٍ، وَلِأَنَّهُ مَحْظُورٌ لِلْإِحْرَامِ لَا يُفْسِدُهُ، فَيَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ خَطَئِهِ وَعَمْدِهِ، كَاللُّبْسِ وَالطِّيبِ. انظر المغني (3/ 438) وهو الراجح قال ابن حزم رحمه الله في المحلى (5/ 235) بعد أن ذكر الآية 0
فَصَحَّ يَقِينًا لَا إشْكَالَ فِيهِ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ كُلَّهُ إنَّمَا هُوَ عَلَى الْعَامِدِ لِقَتْلِهِ، الذَّاكِرِ لِإِحْرَامِهِ، أَوْ؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَرَمِ، لِأَنَّ إذَاقَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَالَ الْأَمْرِ وَعَظِيمَ وَعِيدِهِ بِالِانْتِقَامِ مِنْهُ لَا يَخْتَلِفُ اثْنَانِ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمُخْطِئِ أَلْبَتَّةَ، وَلَا عَلَى غَيْرِ الْعَامِدِ لِلْمَعْصِيَةِ الْقَاصِدِ إلَيْهَا؛ فَبَطَلَ يَقِينًا أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْآنِ، وَلَا فِي السُّنَّةِ إيجَابُ حُكْمٍ فِي هَذَا الْمَكَانِ عَلَى غَيْرِ الْعَامِدِ الذَّاكِرِ الْقَاصِدِ إلَى الْمَعْصِيَةِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5] وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» - رواه ابن ماجه (2045) وصححه الألباني -  
ثانيا : عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَنِ الضَّبُعِ، فَقَالَ: «هُوَ صَيْدٌ وَيُجْعَلُ فِيهِ كَبْشٌ إِذَا صَادَهُ الْمُحْرِمُ»
رواه أبو داود (3801) حديث صحيح صححه البخاري و الألباني
عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ عُمَرَ «حَكَمَ فِي الضَّبُعِ كَبْشًا، وَفِي الْغَزَالِ شَاةً، وَفِي الْأَرْنَبِ عَنَاقًا، وَفِي الْيَرْبُوعِ جَفْرَةً» رواه عبد الرزاق في المصنف (8224) وصححه الألباني في الإرواء (1051) والعناق: من أولاد المعز وهي التي من حين تولد إلى أن ترعى. واليربوع: حيوان يشبه الفأر. والجفرة: ما بلغ أربعة أشهر من الماعز وفصل عن أمه.وعَن ابْنِ عَبَّاسٍ  أَنَّهُ جَعَلَ فِي حَمَامِ الْحَرَمِ عَلَى الْمُحْرِمِ وَالْحَلَالِ فِي كُلِّ حَمَامَةٍ شَاةً "رواه البيهقي في الكبرى (10004) وصححه الألباني
قال ابن قدامة في المغني (3/441)
وَأَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى إيجَابِ الْمِثْلِ اهـ  المقصود بالمثل المشابهة في الصورة والخلقة 0
 ثالثا : وَإِذَا ذَبَحَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ صَارَ مَيْتَةً، يَحْرُمُ أَكْلُهُ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ. وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَالْقَاسِمِ، وَسَالِمٍ، وَمَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ.
وَقَالَ الْحَكَمُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ: لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ ذَبِيحَةِ السَّارِقِ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَأَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ: يَأْكُلُهُ الْحَلَالُ. وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ قَوْلٌ قَدِيمٌ، أَنَّهُ يَحِلُّ لِغَيْرِهِ الْأَكْلُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ مَنْ أَبَاحَتْ ذَكَاتُهُ غَيْرَ الصَّيْدِ أَبَاحَتْ الصَّيْدَ، كَالْحَلَالِ.
وَلَنَا، أَنَّهُ حَيَوَانٌ حُرِّمَ عَلَيْهِ ذَبْحُهُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَحِلَّ بِذَبْحِهِ كَالْمَجُوسِيِّ، وَبِهَذَا فَارَقَ سَائِرَ الْحَيَوَانَاتِ، وَفَارَقَ غَيْرَ الصَّيْدِ، فَإِنَّهُ لَا يُحَرَّمُ ذَبْحُهُ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ إذَا ذَبَحَهُ الْحَلَالُ انظر المغني (3/292)
قال ابن عثيمين رحمه الله في الشرح الممتع (7/452) فلو ذبح الإنسان أو صاد صيداً في الحرم فإنه حرام حتى لو سمى وأنهر الدم، ولو صاد صيداً أو ذبحه وهو محرم فهو حرام، ولو سمى وأنهر الدم؛ لأنه محرَّم لحق الله، ولهذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم للصعب بن جثامة ـ رضي الله عنه ـ قال: «إنا لم نرده عليك إلا أنا حُرم»، وهذا يتبين بالتعبير القرآني: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] ، ولم يقل لا تصيدوا الصيد، فدل هذا على أن صيد الصيد والإنسان محرم يعتبر قتلاً، لا صيداً، والقتل لا تحل به المقتولة اهـ
رابعا : قاتل الصيد مخير بين واحد من ثلاثة : الهدي أو الإطعام أو الصيام على الراجح 0
قال ابن قدامة في المغني (3/448)
إنَّ قَاتِلَ الصَّيْدِ مُخَيَّرٌ فِي الْجَزَاءِ بِأَحَدِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، بِأَيِّهَا شَاءَ كَفَّرَ، مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ، أَنَّهَا عَلَى التَّرْتِيبِ، فَيَجِبُ الْمِثْلُ أَوَّلًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَطْعَمَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالثَّوْرِيِّ؛ لِأَنَّ هَدْيَ الْمُتْعَةِ عَلَى التَّرْتِيبِ.
وَهَذَا أَوْكَدُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ بِفِعْلٍ مَحْظُورٍ. وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ، أَنَّهُ لَا إطْعَامَ فِي الْكَفَّارَةِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ لِيَعْدِلَ الصِّيَامَ؛ لِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى الْإِطْعَامِ قَدَرَ عَلَى الذَّبْحِ. هَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، وَأَبِي عِيَاضٍ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95] . " وَأَوْ " فِي الْأَمْرِ لِلتَّخْيِيرِ. رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ أَوْ أَوْ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ اهـ
قال ابن حزم في المحلى (5/241) وَأَمَّا الْمُتَعَمِّدُ لِقَتْلِ الصَّيْدِ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ أَيُّهَا شَاءَ فَعَلَهُ؟ وَقَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ إمَّا أَنْ يُهْدِيَ مِثْلَ الصَّيْدِ الَّذِي قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ وَهِيَ: الْإِبِلُ، وَالْبَقَرُ، وَالْغَنَمُ - ضَأْنُهَا، وَمَاعِزُهَا - وَعَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ مَا يُشْبِهُ الصَّيْدَ الَّذِي قَتَلَ مِمَّا قَدْ حَكَمَ بِهِ عَدْلَانِ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، أَوْ مِنْ التَّابِعِينَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ تَحْكِيمَ حُكْمَيْنِ الْآنَ وَإِنْ شَاءَ أَطْعَمَ مَسَاكِينَ؛ وَأَقَلُّ ذَلِكَ ثَلَاثَةٌ، وَإِنْ شَاءَ نَظَرَ إلَى مَا يُشْبِعُ ذَلِكَ الصَّيْدَ مِنْ النَّاسِ، فَصَامَ بَدَلَ كُلِّ إنْسَانٍ يَوْمًا.
بُرْهَانُ ذَلِكَ -: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95] .
فَأَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى التَّخْيِيرَ فِي ذَلِكَ بِلَفْظَةِ " أَوْ " وَأَوْجَبَ مِنْ الْمِثْلِ مَا حَكَمَ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنَّا اهـ
خامسا : (وَلَوْ اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي قَتْلِ صَيْدٍ، فَعَلَيْهِمْ جَزَاءٌ وَاحِدٌ) يُرْوَى عَنْ أَحْمَدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ؛ إحْدَاهُنَّ، أَنَّ الْوَاجِبَ جَزَاءٌ وَاحِدٌ. وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ.
وَالثَّانِيَةُ، عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ جَزَاءٌ. رَوَاهُمَا ابْنُ أَبِي مُوسَى. وَاخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَيُرْوَى عَنْ الْحَسَنِ؛ لِأَنَّهَا كَفَّارَةُ قَتْلٍ يَدْخُلُهَا الصَّوْمُ، أَشْبَهَتْ كَفَّارَةَ قَتْلِ الْآدَمِيِّ. وَالثَّالِثَةُ، إنْ كَانَ صَوْمًا صَامَ كُلُّ وَاحِدٍ صَوْمًا تَامًّا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَجَزَاءٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا هَدْيٌ وَالْآخَرُ صَوْمٌ، فَعَلَى الْمُهْدِي بِحِصَّتِهِ، وَعَلَى الْآخَرِ صَوْمٌ تَامٌّ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ لَيْسَ بِكَفَّارَةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ بَدَلٌ، بِدَلِيلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَطَفَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] . وَالصَّوْمُ كَفَّارَةٌ، كَكَفَّارَةِ قَتْلِ الْآدَمِيِّ.
وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] . وَالْجَمَاعَةُ قَدْ قَتَلُوا صَيْدًا، فَيَلْزَمُهُمْ مِثْلُهُ، وَالزَّائِدُ خَارِجٌ عَنْ الْمِثْلِ، فَلَا يَجِبُ، وَمَتَى ثَبَتَ اتِّخَاذُ الْجَزَاءِ فِي الْهَدْيِ، وَجَبَ اتِّخَاذُهُ فِي الصِّيَامِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95] . وَالِاتِّفَاقُ حَاصِلٌ أَنَّهُ مَعْدُولٌ بِالْقِيمَةِ، إمَّا قِيمَةُ الْمُتْلَفِ، وَإِمَّا قِيمَةُ مِثْلِهِ، فَإِيجَابُ الزَّائِدِ عَلَى عَدْلِ الْقِيمَةِ خِلَافُ النَّصِّ، وَأَيْضًا مَا رُوِيَ عَمَّنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا كَمَذْهَبِنَا، وَلِأَنَّهُ جَزَاءٌ عَنْ مَقْتُولٍ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِهِ، فَكَانَ وَاحِدًا، كَالدِّيَةِ، أَوْ كَمَا لَوْ كَانَ الْقَاتِلُ وَاحِدًا، أَوْ بَدَلَ الْمَحِلِّ، فَاتَّحَدَتْ بِاتِّحَادِهِ الدِّيَةُ، وَكَفَّارَةُ الْآدَمِيِّ لَنَا فِيهَا مَنْعٌ، وَلَا يَتَبَعَّضُ فِي أَبْعَاضِهِ، وَلَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِهِ، فَلَا يَتَبَعَّضُ عَلَى الْجَمَاعَةِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا.انظر المغني (3/451)
سادسا : إذا اختار قاتل الصيد "المثل" من النَّعَم، وجب أن يذبحه في الحرم، ويوَزِّعه على فقراء الحرم؛ لقوله - تعالى -: ﴿ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة: 95].

وأمَّا الإطعام والصيام، فلا يشترط أن يكونا بالحَرَم؛ لأن الآية لم تنص على بلوغه الكعبة إلا على الهَدْي.

سابعا :- إذا أراد الإطعام، أطعم مساكين حتى يُشْبِعهم، واختلفوا في عدد المساكين الذين يجب إطعامهم، والراجح ما ذهب إليه ابن حزم: أقلُّهم ثلاثة؛ لأن الله - تعالى - قال: ﴿ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ [المائدة: 95]، ولم يحدِّد عددًا، وأن لفظ ﴿ مَسَاكِينَ [المائدة: 95]، جمْع، وأقل الجمع ثلاثة.
قال ابن حزم رحمه الله : وَأَوْجَبَ تَعَالَى طَعَامَ مَسَاكِينَ، وَهَذَا بِنَاءً لَا يَقَعُ عَلَى أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي اللُّغَةِ الَّتِي بِهَا نَزَلَ الْقُرْآنُ، وَيَقَعُ عَلَى ثَلَاثَةٍ فَصَاعِدًا إلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى إحْصَائِهِ إلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ؛ فَكَانَ إيجَابُ عَدَدٍ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ قَوْلًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِلَا بُرْهَانٍ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَوَجَبَ إطْعَامُ الثَّلَاثَةِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ لَا أَقَلَّ، فَإِنْ زَادَ فَهُوَ تَطَوُّعُ خَيْرٍ.
وَنَحْنُ نَشْهَدُ بِشَهَادَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَنَقْطَعُ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَرَادَ أَنْ يُلْزِمَ فِي هَذَا عَدَدًا مَحْدُودًا مِنْ الْمَسَاكِينِ لَا يُوجِبُهُ ظَاهِرُ الْآيَةِ أَوْ صِفَةٌ مِنْ الْإِطْعَامِ لَا يَقْتَضِيه وَظَاهِرُ الْآيَةِ لَمَا أَغْفَلَهُ عَمْدًا وَلَا نَسِيَهُ، وَلَبَيَّنَهُ لَنَا فِي كِتَابِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا بَيَّنَ عَدَدَ الْمَسَاكِينِ فِي كَفَّارَةِ قَتْلِ الْخَطَأِ، وَكَفَّارَةِ الْعَوْدِ لِلظِّهَارِ، وَكَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ، وَكَفَّارَةِ الْوَطْءِ فِي رَمَضَانَ، وَكَفَّارَةِ حَلْقِ الرَّأْسِ لِلْأَذَى فِي الْإِحْرَامِ، فَإِذَا لَمْ يَنُصَّ تَعَالَى هُنَا عَلَى عَدَدٍ بِعَيْنِهِ وَلَا عَلَى صِفَةٍ بِعَيْنِهَا فَنَحْنُ نَشْهَدُ بِشَهَادَةِ اللَّهِ الصَّادِقَةِ أَنَّهُ لَمْ يُلْزِمْ فِي ذَلِكَ غَيْرَ مَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ الْآيَةِ بِيَقِينٍ لَا مَجَالَ لِلشَّكِّ فِيهِ، وَلَا يُمْكِنُ سِوَاهُ - وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ - انظر المحلى (5/241 )
ثامنا : وإن أراد الصيام نظر إلى عدد ما يشبع هذا الصيد من الناس ، فصام بدل كل إنسان يوما لأن الله قال : (أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا}
تاسعا : وَمَنْ قَتَلَ الصَّيْدَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ مَرَّةٍ جَزَاءٌ وَلَيْسَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95] بِمُسْقِطٍ لِلْجَزَاءِ عَنْهُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ: لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ، بَلْ قَدْ أَوْجَبَ الْجَزَاءَ عَلَى الْقَاتِلِ لِلصَّيْدِ عَمْدًا، فَهُوَ عَلَى كُلِّ قَاتِلٍ مَعَ النِّقْمَةِ عَلَى الْعَائِدِ انظر المحلى (5/267) وانظر المجموع ( 7/437)
عاشرا : وَبَيْضُ النَّعَامِ وَسَائِرِ الصَّيْدِ حَلَالٌ لِلْمُحْرِمِ وَفِي الْحَرَمِ - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابِهِمَا: لِأَنَّ الْبَيْضَ لَيْسَ صَيْدًا، وَلَا يُسَمَّى صَيْدًا، وَلَا يُقْتَلُ، وَإِنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمُحْرِمِ قَتْلَ صَيْدِ الْبَرِّ فَقَطْ؛ فَإِنْ وَجَدَ فِيهَا فَرْخَ مَيِّتٍ فَلَا جَزَاءَ لَهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ صَيْدًا وَلَمْ يَقْتُلْهُ؛ فَإِنْ وَجَدَ فِيهَا فَرْخَ حَيٍّ فَمَاتَ فَجَزَاؤُهُ بِجَنِينٍ مِنْ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ صَيْدٌ قَتَلَهُ انظر المحلى (5/259)